الإثنين، 29 أبريل 2024
رئيس التحرير
فهد محمد الخزّي

مرزوق العمري يكتب: من أعلام الدعوة الإسلامية.. الشيخ عمر العرباوي

الجزائر – مرزوق العمري: قيض الله عز وجل لخدمة دينه والدعوة إليه رجالا تميزوا بما آتاهم الله ...


 

 

المتواجدون على الموقع

المتواجدون الأن

274 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

هذا ديننا

9 13 2015 11 43 26 AM

د. مسعود صبري :

شهر ذي الحجة، هو الشهر الثاني عشر من السنة الهجرية، وتعود سبب التسمية إلى عام 412م في عهد كلاب بن مرة ، الجد الخامس لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وسمي الشهر بذلك لوقوع معظم مناسك الحج به، وهو آخر الأشهر المعلومات التي قال الله تعالى فيها : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } [البقرة: 197]، وتبدأ أشهر الحج بأول يوم من شوال وتنتهي بأيام الحج من شهر ذي الحجة.

وفيه من اليوم الثامن يوم التروية، وفيه من اليوم التاسع يوم عرفة، أو ما يعرف بيوم الحج الأكبر، ويكون اليوم العاشر منه أول أيام عيد الأضحى.

وهو من أيام الله تعالى التي اختصها بمزيد من الأجر ومضاعفة العمل الصالح فيه ، كما  روى البخاري في "صحيحه"  عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما مِن أيَّامٍ العملُ الصالحُ فيها [أَحَبُّ] إلى الله مِن هذه الأيَّامِ" يعني أيام العَشْرِ. قالوا: يا رسولَ الله! ولا الجهادُ في سبيلِ الله؟ قال: "ولا الجهادُ في سبيلِ الله إلا رجل خَرَجَ بنفسِهِ ومالِه ثم لم يَرجِعْ مِن ذلك بشيءٍ".

وهي – كما قال الإمام ابن القيم – رحمه الله- في زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 56) الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله: {والفجر - وليال عشر} [الفجر: 1 - 2] [الفجر: 1 - 2] ولهذا يستحب فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( «فأكثروا فيهن من التكبير والتهليل والتحميد» ) ، ونسبتها إلى الأيام كنسبة مواضع المناسك في سائر البقاع.

وفضل تلك الأيام كان موجودا في الأمم السابقة، قال السمرقندي في تنبيه الغافلين (ص: 327): وقال أهل التفسير في قوله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة} [الأعراف: 142] ، إنها عشر من أول ذي الحجة {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164] ، وقربه نجيا في أيام العشر وكتب له الألواح في أيام العشر.

ولذا، استحب العمل الصالح فيها عن غيرها، فقد روي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، أنه قال: عليكم بصوم أيام العشر، وإكثار الدعاء، والاستغفار، والصدقة فيها، فإني سمعت نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: «الويل لمن حرم خير أيام العشر» .

وفي العشر من ذي الحجة يومان من أفضل أيام الله، هما يوم عرفة ويوم النحر.

وفي يوم عرفة يقول ابن مسعود: فإذا كان يوم عرفة يباهي الله تعالى ملائكته، فيقول يا ملائكتي انظروا إلى عبادي جاءوا شعثا غبرا قد أنفقوا الأموال، وأتعبوا الأبدان، اشهدوا أني قد غفرت لهم.

وفي يوم النحر قال – أيضا- فإذا كان النحر، وقرب العبد قربانه، فأول قطرة من القربان تكون كفارة لكل ذنب عمله العبد، والرابع: يوم الفطر فإذا صاموا شهر رمضان، وخرجوا إلى عيدهم يقول الله تبارك وتعالى لملائكته: إن كل عامل يطلب أجره وعبادي صاموا شهرهم، وخرجوا من عيدهم يطلبون أجرهم أشهدكم أني قد غفرت لهم، وينادي المنادي يا أمة محمد ارجعوا فقد بدلت سيئاتكم حسنات.

الأحكام الفقهية المتعلقة بشهر ذي الحجة:

الحكم الأول: الشك في دخول ذي الحجة:

لو شك الناس في ظهور هلال ذي الحجة، فوقفوا بعرفة إن أكملوا عدة شهر ذي القعدة ثلاثين يوما، ثم شهد الشهود أنهم رأوا هلال شهر ذي الحجة ليلة كذا، وتبين من شهادتهم أن وقوفهم بعرفة كان يوم الفطر، فقد اتفقت الأئمة الأربعة على أن وقوفهم صحيح، وحجهم تام غير منقوص.

ودليل ذلك ما ورد عن النبي صلى  الله عليه وسلم أنه قال: " الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون, الأضحى يوم تضحون".

هذا إذا كان وقوفهم خطأ يوم العيد، أما إذا كانوا وقفوا يوم الثامن وهو يوم التروية، يعني قبل يوم عرفة ظانين أنه عرفة، فلا يجزئهم ذلك على ما ذهب إليه جمع غفير من أهل العلم، كأبي حنيفة وصاحبيه، ومالك، والليث بن سعد المصري، والإمام الأوزاعي وغيرهم.

وسبب التفرقة بين صحة الوقوف يوم النحر وبين خطأ الوقوف يوم التروية، أن من وقف يوم النحر أصاب ما قاله الشارع من إكمال العدة، أما من وقف يوم التروية فقد وقف باجتهاده دون نص من الشارع، وأنهم قبلوا شهادة من لا يوثق به.

الحكم الثاني: صيام التسع الأول من ذي الحجة:

يستحب صيام التسع الأول من ذي الحجة باتفاق العلماء، ويحرم صيام اليوم العاشر، وهو يوم عيد الأضحى، لما رواه الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة.

ولحديث ابن عباس: رضي الله تعالى عنهما مرفوعا: ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام - يعني أيام العشر - قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء .

ويرى بعض الفقهاء أن الصوم خاص بغير الحجاج، كما يرى البعض كالحنابلة أن للحاج أن يشارك المسلمين في صيام هذه الأيام.

الحكم الثالث: صوم يوم عرفة:

يستحب صيام يوم عرفة لعموم المسلمين إلا الحجيج، فإنه يكره لهم صيامه، حتى يتفرغوا للعبادة ويقووا عليها في هذا اليوم العظيم، ولأن ما يقوم به الحجيج من طاعة وعبادة ودعاء أعظم من صيامهم فيه.

وفي استحباب صوم يوم عرفة لغير الحاج ورد عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة فقال: يكفر السنة الماضية والباقية.

ومعناه أن الله تعالى يغفر للصائم يوم عرفة ذنوب سنتين، السنة الماضية والسنة المستقبلة، وقيل: يغفر ذنوب الماضية، ويعصمه من الذنوب في السنة المستقبلة.

أما نوع الذنوب التي تغفر بسبب صيام يوم عرفة، فذهب بعض جمهور الفقهاء أن المراد منها صغائر الذنوب، مستدلين بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن من الذنوب إذا اجتنب الكبائر  .

وذهب آخرون إلى إن أن الله يغفر الذنوب جميعها صغيرها وكبيرها، لأن اللفظ الوارد فيها عام.

الحكم الرابع: استحباب إحياء ليالي العشر من ذي الحجة:

يستحب عند بعض المذاهب كالحنفية والحنابلة إحياء الليال العشر الأول من ذي الحجة، لحديث: " ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر.

الحكم الرابع: بقية الأعمال الصالحة:

لا يقتصر الاستحباب في العمل الصالح في ذي الحجة على الصوم أو قيام الليل فحسب، بل يستحب الإكثار من الأعمال الصالحة بشكل عام، فثواب قراءة القرآن والصدقة والبر والإحسان والذكر وغيرها من الأعمال الصالحة تضاعف في هذه الأيام المباركة، لعموم ما ورد في الحديث من مضاعفة أجر العاملين في هذه الأيام.

5221542

د. بليغحمدياسماعيل :

المناسك هي ما يقوم به الحاج والمعتمر من عبادات وطاعات بالقول والفعل أثناء أدائه فريضة الحج أو العمرة، والرسول  "صلى الله عليه وسلم"  هو الذي تكفل ببيان هذه المناسك لأنها لم تذكر في القرآن بتفصيل، فقال  "صلى الله عليه وسلم" : «خذوا عني مناسككم»، والكثير من العبادات بينها الرسول  "صلى الله عليه وسلم"  لأن كتاب الله اكتفى بذكرها مجملة، فكانت السنة الشريفة متممة لما جاء في كتاب الله من أحكام وشرائع وقوانين، والإيمان لا يكتمل إلا بالاعتقاد بالكتاب والسنة، والمسلم يرد كل أمر إلى هذين المصدرين: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء: 58). والمناسك كما أداها الرسول  "صلى الله عليه وسلم"  هي:

الإحرام

وهي النية بالدخول في أحد النسكين، الحج أو العمرة، وله زمن محدد في الحج، حيث يبدأ من أول شهر شوال إلى طلوع الفجر من يوم النحر، أما العمرة فتكون في جميع أوقات السنة، وميقات الحجاج حدده رسول الله  "صلى الله عليه وسلم" ، فسكان المدينة المنورة ومن مر بها من غير أهلها يحرمون من رابغ وهو من أعمال الجحفة، وقرن ميقات لأهل نجد، وذات عرق ميقات لأهل العراق، ويلملم ميقات لأهل اليمن، ومن كان بمكة المشرفة سواء كان من أهلها أو مقيمًا بها فإن إحرامه بالحج يكون من الحل وهو التنعيم، والإحرام قبل المكان الميقاتي مكروه ويلزمه الهدي، فلذلك ينبغي التزام الحاج والمعتمر بالإحرام من الميقات المحدد له، وحينما دخل رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  في الإحرام اغتسل وصلى ركعتين، فأصبح الاغتسال وصلاة ركعتين سنة اقتداء بما فعله  "صلى الله عليه وسلم" ، ثم النطق بعبارة «لبيك اللهم عمرة»، ثم أخذ رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  بعد الدخول في نسك الإحرام يردد لفظ التلبية وهو «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»، وقد ثبت عنه  "صلى الله عليه وسلم"  أنه ردد التلبية حتى وصل إلى مكة المكرمة فطاف ثم عاود التلبية حتى وصل إلى مصلى عرفة، ثم لبى حتى رمى جمرة العقبة.

الطواف

قال الله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج: 17)، والطواف منه ما هو ركن لا يجبر بالدم، وهو طواف الإفاضة، ومنه ما ليس بركن وهو طواف القدوم، وطواف الوداع مستحب ولا شيء على من تركه، وفي طواف القدوم يستحب- كما فعل الرسول  "صلى الله عليه وسلم" - الاغتسال، وهو اغتسال لأجل الطواف، والحائض والنفساء لا تغتسل لأنها لا تطوف، والطواف سبعة أشواط لا يفرق بينها الحاج والمعتمر، فيجعل البيت عن يساره، وإذا وصل إلى الركن اليماني، وهو الركن الذي قبل الحجر الأسود، لمسه بيده ووضعها على فيه من غير تقبيل وكبر، فإن لم يقدر كبر ومضى، وأما الركنان الشاميان، وهما اللذان يليان الحجر الأسود، فلا يقبلهما ولا يستلمهما، فإذا دار بالبيت حتى وصل الحجر الأسود فذاك شوط، ويستحب للرجل أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، والرمل فوق المشي ودون الجري، وقد بين الرسول  "صلى الله عليه وسلم"  كيفية الطواف في عمرة القضاء، وكانت سنة سبع للهجرة، وتسمى عمرة القصاص أيضا، لأن الرسول اقتص من قريش الذين منعوه من دخول مكة سنة ست للهجرة، وفي هذه العمرة أنزل الله تعالى قوله: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحًا قريبًا} (الفتح: 27)، وقد ثبت عن الرسول  "صلى الله عليه وسلم"  أنه حينما دخل المسجد اضطبع بردائه(14)، وأخرج عضده اليمنى ثم استلم الركن، وخرج وهرول، وأصحابه معه يهرولون، حتى إذا واراه البيت استلم الركن اليماني ثم مشى فاستلم الركن الأسود، وهرول ثلاثة أطواف، ومشى سائرها، فكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم، وذلك أن رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم، حتى إذا حج حجة الوداع لزمها فمضت السنة بها.

وبعد أن انتهى  "صلى الله عليه وسلم"  من الطواف مشى إلى مقام إبراهيم  "صلى الله عليه وسلم" ، وقرأ قوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (البقرة: 125)، ثم صلى فيه ركعتين، عن جابر بن عبدالله قال: «إن رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}».

ويستفاد من هذا أن الصلاة تكون بعد الطواف، ولهذا فإن من ترك ركعتي طواف القدوم والإفاضة لغير نسيان وبعد عن مكة فإنه يلزمه الهدي، أما طواف الإفاضة وهو ركن في فريضة الحج فيكون بعد رمي جمرة العقبة حيث يقصد الحاج مكة فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة إن لم يكن قد سعى من قبل، وهو سبعة أشواط مثل طواف القدوم.

المرأة الحائض والنفساء لا تطوف

إن المرأة الحائض والنفساء تقضي كل ما يقضيه الحاج من مناسك الحج والعمرة إلا الطواف فإنها لا تطوف حتى تغتسل، لكون الطواف مثل الصلاة إلا أنه يجوز فيه الكلام، وفي حجة الوداع خرجت عائشة- رضي الله عنها- مع رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  لأداء فريضة الحج، فقالت: «وحضت ذلك اليوم (16)، فدخل علي وأنا أبكي، فقال: مالك يا عائشة؟ لعلك نفست، قالت: قلت: نعم، والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر، فقال: لا تقولين ذلك، فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج إلا أنك لا تطوفين بالبيت (17)».

فأدت عائشة- رضي الله عنها- المناسك كلها باستثناء الطواف، وحينما اغتسلت أحرمت من مكان الإحرام، قالت رضي الله عنها: «حتى إذا كانت ليلة الحصبة، بعث بي رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  مع أخي عبدالرحمن بن أبي بكر، فأعمرني من التنعيم، مكان عمرتي التي فاتتني(18)».

الوقوف بعرفة

الوقوف بعرفة ركن أساسي في الحج، لا يجبر بالدم، فمن لم يدركه فقد فاته الحج، فقال رسول الله  "صلى الله عليه وسلم" : «الحج عرفة، من أدرك الوقوف قبل طلوع الفجر فقد أدرك»(19)، وقال الله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} (البقرة: 198)، والإفاضة هي السير عند الدفع من عرفات، وكانت قريش في الجاهلية تقف عند المشعر الحرام، فلما حج النبي  "صلى الله عليه وسلم"  توجه يوم التروية- وهو اليوم الثامن من ذي الحجة- إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، فلما طلعت الشمس أمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة، ثم سار، ولا تشك قريش أنه واقف في المشعر الحرام على عادتها، فجازه  "صلى الله عليه وسلم"  حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت فنزل بها.

أما وقت الإفاضة فقد بينه رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  عمليا، إذ ثبت انه وقف حتى غربت الشمس قليلًا، وذهبت الصفرة، وغاب القرص.

في بيان المواقف في المناسك

كما بين  "صلى الله عليه وسلم"  مكان الوقوف بعرفة وبالمناسك الأخرى وهي المزدلفة ومنى.

قال ابن إسحق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح «أن رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  حين وقف بعرفة قال: هذا الموقف، للجبل الذي وقف عليه، وكل عرفة موقف، وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة، هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف، ثم لما نحر بالمنحر بمنى قال: هذا المنحر، وكل منى منحر»(20).

وفي حديث آخر قال  "صلى الله عليه وسلم" : «عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة- بضم العين وتسكين الراء- ومزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر- بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة- ومنى كلها منحر، وفجاج مكة كلها منحر».

هذا بيان وتوضيح للمواقف التي ينبغي أن يقف فيها الحاج أثناء أداء مناسكه، وثبت أنه  "صلى الله عليه وسلم"  أخذه وقت المغرب بعرفة فأخره إلى المزدلفة حيث المشعر، فقال له أسامة: الصلاة، فقال  "صلى الله عليه وسلم" : «الصلاة أمامك».

وقال الله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} (البقرة: 39). 

قال المفسرون: إنها إشارة إلى أن الصلاة تؤخر إلى المشعر الحرام، وقد ثبت أن النبي  "صلى الله عليه وسلم"  وقف بعرفة حتى غابت الشمس، ثم دفع فأتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، ودعا وكبر وهلل، ولم يزل واقفًا حتى أسفر جدا، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس.

الهدي

الهدي هو ما يذبحه الحاج من إبل أو بقر أو غنم تقربًا إلى الله، قال الله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} (البقرة: 199)، والآية لم تبين نوع الهدي، وقد ثبت عن النبي  "صلى الله عليه وسلم"  أنه «أهدى عن نفسه وعن أصحابه البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة»(23)، وقال مالك  "رضي الله عنه"  في قوله تعالى: {فما استيسر من الهدي} هو شاة أو بدنة، لأن الهدي يطلق على ذلك، وقالت عائشة رضي الله عنها: إنما هو البدنة، لأن الهدي لا يطلق إلا على غيرها، وقال ابن عباس: هو الاشتراك في دم، لأنه  "صلى الله عليه وسلم"  نحر عام الحديبية البدنة عن سبعة.

ويجوز الاشتراك في الهدي، فقد ثبت عنه  "صلى الله عليه وسلم"  أنه أشرك علي بن أبي طالب معه في الهدي حينما أهل بالحج بعد عودته من اليمن ولم يكن معه هدي، فثبت على إحرامه مع رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  حتى فرغا من الحج، ونحر رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  الهدي عنهما(25)، والمتمتع بالعمرة إلى وقت الحج يذبح لأجل المتعة هديًا يوم النحر، قال تعالى: {فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} (البقرة: 195)، وإذا لم يكن في مقدوره شراء الهدي فيصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده كما بينت الآية ذلك بوضوح.

والفدية هي ما يقدمه الحاج من هدي أو إطعام مساكين أو صيام كفارة لما قام به من محظورات الحج، وذلك إذا أزال شعره وهو محرم قال تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} (البقرة: 195)، أو تعرض للحيوان البري الذي يحرم صيده قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا ليذوق وبال أمره} (المائدة: 97)، أو قام بأحد المحظورات وهو محرم مثل لبس المخيط والتطيب وقتل القمل والاغتسال وقطع الأظافر ودهن اللحية والرأس.

طواف الوداع

وهو مستحب ولا يجب شيء على من تركه، وكأن الحاج يجعله آخر عهده بالبيت الحرام ولاسيما للأفاقي الذي قد لا يتيسر له زيارة هذا المكان المقدس في المستقبل، ولذلك ينبغي له الإكثار من الطواف والدعاء في فترة وجوده في البيت العتيق.

زيارة قبر الرسول  "صلى الله عليه وسلم"

هذه الزيارة ليست من أركان الحج ولا من واجباته لكنها مستحبة وآكدة، وذلك أن المسلم الذي يؤدي عبادة الحج الخاصة لله ويتمها بكل أركانها وواجباتها يجب عليه، اعترافًا بالجميل، أن يزور قبر الرسول  "صلى الله عليه وسلم" ، وقبور أصحابه الذين أبلوا البلاء الحسن في نصرة الإسلام، فبفضلهم يتمتع المسلمون الآن بنعمة الإسلام ونوره، وزيارة قبر الرسول  "صلى الله عليه وسلم"  وأصحابه، رضوان الله عليهم، ينبغي أن تتسم بآداب وأخلاق الزيارة وهي الاعتراف لهم بالجميل والفضل على ما بذلوه من تضحيات في سبيل إعلاء كلمة الله والثبات على الحق حتى لقوا الله راضين مرضيين، وأن يدعوا لهم بالدعاء الصالح.

وزيارة المدينة المنورة والوقوف على مآثرها التاريخية تشعر المسلم بمرحلة حاسمة في تاريخ الدعوة الإسلامية حيث حقق المسلمون انتصارًا باهرًا على المشركين ومن تحالف معهم، وأسسوا الدولة الإسلامية التي قامت على العدل والمساواة.

نسأل الله أن يمتع كل مسلم بأداء هذه الفريضة، وبزيارة قبر الرسول  "صلى الله عليه وسلم"  الذي جاءنا بهذا النور الذي ننعم به.

man prays arafat3

عثمان إسماعيل :

آن الأوان أن يتفهم المسلمون المفهوم العصري لفريضة الحج، والمقصود من ورائها وأدائها، بما يتلاءم ويتناسب وظروف حياتهم العصيبة شديدة التأزم التي يمرون بها، الأمر الذي جعل من الضروري أن نترجم تلك الفضيلة- من مناسك وشعائر وأحكام- إلى تطبيق فعلي على مستوى الفرد والشعوب، لأن هذا الجمع الإسلامي السنوي المهيب كفيل بأن يستغله المسلمون لمناقشة أمور دينهم ودنياهم.. مناقشة أساسها الحوار النافع، وتقبل الحوار المثمر، خاصة بعد عودة هؤلاء الحجيج إلى ديارهم، وقد تمنوا غفران الذنوب، وشهدوا منافع لهم، وتحملوا ما تحملوا..

أتوا من كل بقاع الأرض، ومن كل فج عميق، شعثًا غبرًا، وقد طلقوا الدنيا بشهواتها ومتاعها، لا هدف لهم إلا رضا الله- عز وجل- وغفران الذنوب، قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 27)، وقال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج: 28)، وعن أبي هريرة  "رضي الله عنه"   قال، قال رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  : «من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه» (رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه).

ورغم أن فريضة الحج- في المقام الأول- صلح مع الله، وصلح مع النفس، فإن أسرارها وما وراءها من منافع يفوقان المصطلح اللفظي الذي يمارسه الحاج، بما يعيشه من تيه وفخر وتفاخر بأنه حج ولبى وزار قبر رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  ، أو أن يتباهى بأنه حج أكثر من مرة.

لقد آن الأوان بأن تدرك جموع المسلمين أن هذا المفهوم التقليدي لابد وأن ينحى جانبًا.. وأن يعيش المسلمون في جمعهم هذا وسط استحضار عظمة الله، ومعايشة سنة نبيه الكريم  " صلى الله عليه وسلم"   ما يعانونه من حياة التأزم والصراع، ومشكلات الشعوب المسلمة..

آن الأوان أن يكون مؤتمر الحج منطلقًا لوجود حلول جوهرية وفعالة وفورية لمآسي الشعوب المسلمة الفقيرة، التي تستغلها قوى الصراع العالمي، وتجعلها ذليلة تحت مظلة الفقر والجوع والاحتياج، خاصة والمسلمون مستهدفون بضراوة وحقد شديد ليكونوا أشد فرقة وتمزيقًا، وهم يتعرضون للذبح والإبادة بصنوف الوسائل الدنيئة، التي تبعدهم عن عالم التقدم والتطور، لتكون الأمة الإسلامية مكبلة بالقيود والأغلال، محشورة في مرحلة الجمود، لا تستطيع الانفلات والتطلع- مثل باقي الأمم- إلى عالم التقدم والتطور.

آن الأوان أن يكون الحج منتدى للحوار والمصارحة، يتدارس فيه المسلمون شؤونهم، ويتبادلون الرأي في مشكلاتهم، ويبحثون ما يعن لهم من أمور الدين والدينا، وهنا يجب أن يغتنموا فرصة هذا اللقاء السنوي؛ توحيدًا للكلمة، وتأكيدًا لممارسة جادة لقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}.. لأن فريضة الحج، بما فيها من أحكام وأسرار وإعجاز إلهي، كافية بأن تضع صورة المسلم في إطار ما ينبغي عليه أن يكون، وأن تطور من مقصد تلك الرحلة لهؤلاء الحجيج، الذين بدأوا رحلتهم بغية الحج وقصد بيت الله الحرام، تلذذًا بفرحة قبول التوبة، ونقاء الضمير، وصفاء الروح الإنسانية.

إن تلك الجموع من الحجاج، وهذا المؤتمر الإسلامي، لابد أن يناله تطور المفهوم والقصد، بمعنى أن هذا المؤتمر ينبغي أن تتمخض عنه لجان تمثل كل دولة على حدة، لا فرق بين لغة أو لون أو جنس.. الكل سواء تحت لواء «لا إله إلا الله، محمد رسول الله».

آن الأوان أن تناقش تلك الشعوب أحوالها وأمورها الحياتية، من منطلق ما أمر الله تعالى به، وما نهى عنه، وما أوجزه رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"   في حديثه الشريف «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا، كتاب الله وسنتي».

ومن هذه المبادئ والأمور الملحة التي يجب مناقشتها:

- مناقشة الوضع الراهن للدول الإسلامية على ساحة الحياة الدولية، وإعادة المكانة المرموقة لها، وسط تكتلات القوى العالمية، والتي تهدف إلى تهميش العالم الإسلامي، والنيل من قدراته بكل الصور الممكنة.. هنا، لابد لدول العالم الإسلامي أن تستخدم ما تمتلك من أسلحة تتباين أنواعها، وما تستطيع من وسائل، للوقوف أمام هذا الأخطبوط الذي يحاول أن يمسك بتلابيب الدول الإسلامية، ويضعها تحت الاحتلال والسيطرة، بكل الأساليب الخبيثة والدنيئة الممكنة.

- الاستعانة بعلماء المسلمين وفقهاء الأمة؛ للحد من سيل الفتاوى والأحكام الدينية في مختلف مناحي الحياة، والوقوف أمام هوية «المفتي» وأثر «الفتوى»، فلابد للفقهاء أن يتّحدوا لتتوحد الأحكام، وذلك بتعيين مجلس فقهاء الأمة، وله مقره وعلماؤه واختصاصه واستقلاليته، خوفًا من تضليل العوام، والتلاعب بعقول البسطاء.

- وضع برامج مساعدات متنوعة للدول التي تخضع لخطر الاحتياج في كافة الأمور الحياتية، سواء معونات مادية أو معنوية، وتبادل الخبرات بين الدول التي تعاني فجوة في أمور يشوبها النقص والاحتياج.

- محاولة الإفادة من التراث الفكري للأمة الإسلامية، وإطلاع الأجيال عليه، وتفهمه وإدراكه، والعمل على الاستعانة به لتكوين الهوية الصحيحة لشباب الإسلام ورجال المسلمين، وإعادة صياغة هوية الأمة كما يصورها لنا هذا التراث العظيم.

- العمل على توحيد كلمة المسلمين، وجمع القوى المتفرقة تحت لواء واحد، والعمل على تحديد الهدف الذي تسعى إليه الكلمة، وهذا الاتحاد من الأسباب التي ترسخ لتلك الأمة من الأصول والدعائم ما يعيد لها عزها وشموخها وهويتها.

- نبذ الخلافات وألوان الشقاق أولًا بأول، بين من أسند إليهم أمر تلك الأمة، وعلى مستويات مسؤولياتهم، وعدم السماح لمثل تلك الأساليب المسمومة بأن تأخذ طرقها، وتتمكن من أهدافها، مع التصدي لها حفاظا على هويتنا، وبقاءً لأمتنا.

- الدعوة إلى تحقيق مبدأ التكاملية بين البلدان الإسلامية في شتى معالم الإنتاج، وتبادل الخبرات المختلفة، أملًا في بزوغ شمس نهضة جديدة، وبغية مستقبل عربي إسلامي زاهر، هدفه الاعتماد على الذات، ومقاومة صنوف الاحتكار العالمي إنتاجًا واستهلاكًا.

- الدعوة إلى مقاومة محاولات تهميش التعليم الديني خاصة، والعلوم العامة عمومًا في العالم الإسلامي، على أن يملكوا مهارة الجمع بين استيعاب تاريخ الأمة- سيرة وسنة وفقهًا- وأرقى صنوف التقدم العلمي والبحثي في كافة المجالات، ووضع استراتيجية تعليمية تكاد تكون مشتركة بين البلدان الإسلامية، بغية التوحد في الفكر والثقافة وتطلعات الشعوب، ومحاولة خلق رأي عام لا يقهر.

- إيجاد هوية للإعلام الإسلامي هدفًا وآلية وتفعيلًا ومحتوى مساهمًا في بناء الشخصية الإسلامية، ومقاومًا للتحديات المختلفة التي يتعرض لها الإسلام، بأدوات مختلفة وأساليب متباينة، على أن يملك هذا الإعلام وحدة الهدف والطابع، وأن تكون استراتيجيته محددة، تعتمد على خطط زمنية لها طموحها المقصود.

وما ذكرناه من منافع مختلفة على سبيل المثال لا الحصر، وعلى المسلمين أن يتعايشوا، وأن يستفيدوا من تلك المنافع مع السياق القرآني في قوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم}.

على أن هذه المنافع لا تقتصر على التجارة أو الربح المادي فقط، كما فهمنا من تفاسير كثيرة للآية الكريمة، بل تمتد تلك المنافع في صميمها إلى معالجة تلك الأمراض التي تؤلم جسد العالم الإسلامي سياسيّا واجتماعيّا واقتصاديّا، على أن تكون الحلول ابتغاء مرضاة الله، بعيدة عن الأهواء الشخصية والمصالح الذاتية.

لقد تعود المتحدثون عن منافع الحج أن يقصروا الحديث على الشعائر والمناسك والتوبة وغفران الذنوب، دون أن يتطرقوا إلى تصوير هذا التجاوب الفكري، وما يمكن أن يؤدي إليه من التئام الشمل، وتوحيد الصف، في عصر كثرت فيه السهام المسمومة المصوبة تجاه أمتنا.

ولنذكر في هذا الصدد ما كتبه الأستاذ محمد فريد وجدي في كتابه «من معالم الإسلام»: لو أردنا أن نستقصي ما يمكن أن يثمره الحج للمسلمين كافة، من وحدة المنافع الأدبية والمادية، لضاق علينا المجال، فإن لم يكن فيها إلا تعارف الشعوب الإسلامية، وإلمام بعضها بحاجات بعض لكفاها ذلك عاملًا قويّا في دفعها إلى تبادل الوسائل، والتعاون على سعة المفاقر، ولو جبلت جميعا على هذا النحو من التكافل لوصلت إلى مستوى رفيع بين شؤون العالم.

ولكن هذه الثمرات الاجتماعية الجليلة لا يمكن أن تكون إلا إذا تطورت فكرة الحج لدى المسلمين حتى تبلغ المفهوم من مراد الله تعالى، فإن المشاهد لدى أكثر المؤمنين الآن أنهم لا يلحظون فيه إلا الناحية الروحية وحدها، وكان لتجريده لهذه الناحية أثر ظاهر في حصره في طبقة من المسلمين لا تتعداها إلا نادرًا.

إن مؤتمر الحج السنوي لهو فرصة حقيقية للتعرف على أحوال المسلمين في جميع فجاج الأرض، ومحاولة واقعية لتشخيص ما يعترضهم من مشكلات، وما يؤلمهم من أمراض اجتماعية، ووضع أساليب العلاج لها بغية الحفاظ على هوية تلك الأمة وتطورها.

وعلى حجاج بيت الله الحرام أن يدركوا قيمة هذا الجمع العظيم، في تلك البقعة الطاهرة، صاحبة أول بيت وضع للناس؛ لتكون المحبة والمودة قائمة بين الشعوب، على مختلف ألسنتها وألوانها وأجناسها وعاداتها، لكن يجمعهم شيء واحد عظيم هو «الإسلام».. وكفى به نعمة.

9 7 2015 10 22 52 AM

عبدالمجيد إبراهيم :

عندما جاء الإسلام أراد أن يبني مجتمعًا متكاملًا، يقوم كل فرد فيه بدوره وعمله على أكمل وجه، ومن ثم جعل من أسسه أن يربي أبناءه على خلق تحمل المسؤولية، فخاطب رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  الأمة جمعيًا خطابًا عامًا يشمل الحاكم والمحكوم، والراعي والرعية، والرجال والنساء، بأن يلتزم كل واحد بصلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره، بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه، فقال  "صلى الله عليه وسلم" : «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، ولكن لما كانت هذه المسؤولية في حاجة إلى وعاء يشملها ومكان تنبت وتنمو فيه، خص من هذا العموم والشمول: الأسرة، بما اشتملت عليه من أب وأم وخادم، إذ هي نواة المجتمع، يولد الفرد في ضوئها، ويعيش في كنفها، ويتغذى من أخلاقها، ويرتوي برعايتها وتوجيهها، ويحيطه أمنها واستقرارها، إذ ليس الأمر فيها مقصورًا على توفير الطعام والشراب والملبس، فقال  "صلى الله عليه وسلم" : «والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته»، وبناء على هذه المسؤولية العامة المطلقة، التي أكدها رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  مرة ثانية، ينبغي ألا ينسحب أي فرد في المجتمع من ميدان عمله، مادام مؤهلاً له، تحت أي ادعاء، أو يهرب منه خوفًا من المسؤولية، وإنما عليه أن يعلم أن الذي أوجبها عليه وهو الله ضمن له الإعانة والتيسير، قال تعالى: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى} (الليل: 5-7)، وقال  "صلى الله عليه وسلم" : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له».

  ثم أراد الإسلام أن يضع بعض الضوابط التي تحقق هذه المسؤولية، وتجعلها تؤتي ثمارها وارفة على المجتمع، وذلك بدعوته إلى إتقان العمل، فقال  "صلى الله عليه وسلم" : «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنة»، فهو يشمل كل أحد وكل عمل، وبذلك يسود الإتقان في المجتمع كله، فيصبح متكاملًا متعاونًا يقوم كل فرد فيه بما عليه حق القيام، وهو يشير- أيضًا- إلى أنه ليس على كل أحد أن ينشغل بعمله فقط، وإنما يطلب منه كذلك كيفية تجويده وتحسينه والارتقاء به، حتى يكون العمل جادًا ومثمرًا، وقد تكفل الله سبحانه وضمن الأجر العظيم على ذلك فقال: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا} (الكهف: 30)، كما جعل من ضوابطه المراقبة، فقال تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} (التوبة: 105)، فأول المراقبين هو الله، مما يعني أنه ينبغي أن يكون المؤمن ملتزما في عمله من أعماق قلبه وقالبه، لأنه يستحيل عليه أن يجعل الله أهون الناظرين إليه، وإلا كان إيمانه ناقصا، ثم عطف المؤمنين على الله ورسوله، ليكون بمنزلة دعوة إلى إقامة الرقابة بعضنا على بعض في حدود الإسلام وضوابطه، وقبل الإتقان والمراقبة لابد من شرط الكفاءة، أي ليس فقط وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وإنما ينبغي أن يختار المتخصص الكفء، الذي سيساعد على الإبداع في الإنجاز، وعلى الوفرة والجودة في الإنتاج، ويجب أن تكون هذه الشروط جميعا محاطة بسياج العدل، لأنه أساس الملك، وهو الذي يوجب تأييد الله وتوفيقه.

وفي ضوء هذا الهدي الإسلامي الرفيع من تحمل المسؤولية، عاش الأولون من المسلمين، فهذا أبوبكر الصديق الخليفة الأول  "رضي الله عنه"  يقول في خطبته بعد البيعة: «يأيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن ضعفت فقوموني، وإن أحسنت فأعينوني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، الضعيف فيكم القوي عندي حتى أرد عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».

ويقول عمر بن الخطاب  "رضي الله عنه" : «إني قد وليت أموركم أيها الناس، واعلموا أن هذه الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والفضل فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا ويتعدى عليه، حتى أضع خده علىالأرض وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق، ولكم علي أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها، لكم علي ألا أجتبي شيئًا من خراجكم، ولا مما أفاء الله عليكم إلا في وجهه، ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى وأسد ثغوركم، ولكم علي ألا ألقيكم في المهالك، وإذا غبتم في البعث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم».

وهذا عمر بن عبدالعزيز، الذي ملأ الأرض عدلًا وكان للرعية أمنا وأمانًا وعلى من خالفه حجة وبرهانًا، قال مولاه له حين رجع من جنازة سليمان، مالي أراك مغتمًّا؟ قال: لمثل ما أنا فيه يغتم له، ليس من أمة محمد  "صلى الله عليه وسلم"  أحد في شرق الأرض وغربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه غير كاتب إلي فيه، ولا طالبه مني.

ومما كتبه إلي ولي العهد من بعده يزيد بن عبدالملك: وقد علمت أني مسؤول عما وليت، يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة، ولست أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئًا، فعليك بتقوى الله، والرعية.. الرعية فإنك لن تبقى بعدي إلا قليلًا حتى تلحق باللطيف الخبير.

فكل واحد منهم كان يبين مسؤوليته والتزامه بها تجاه رعيته، وحرصه على تحقيق مصالحهم جميعًا، الضعيف منهم والقوي، الكبير والصغير، بما يضمن لهم الأمن والاستقرار، ويحقق لهم العدل والمساواة، وفي الوقت نفسه كان يحمّل رعيته مسؤوليتها نحوه، طاعة أو تقويمًا، ونصحًا وإعانة، إذ ينبغي أن يكون من الشعب والرعية من تحمل المسؤولية مثل ما يكون من الراعي، سواء بسواء، وبهذا طالب عبدالملك بن مروان رعيته قائلًا لهم: أنصفونا يا معشر الرعية، تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر، نسأل الله أن يعين كلًا على كل.

أيها القارئ، هذا عن المسؤولية مطلقًا باعتبارها صفة أساسية وخلقًا ملازما للمؤمن، فلاشك أننا في وقت الشدائد والأزمات أشد احتياجا إلى إحياء خلق المسؤولية

medin82002

خلف أحمد أبوزيد:

كانت المساجد، وستظل، محور الحياة الدينية في العالم الإسلامي. ولقد أقيم أول مسجد في الإسلام من قبل النبي  " صلى الله عليه وسلم"  في المدينة المنورة، وكان من البساطة بحيث لم يتجاوز في بدايته حجم قاعة لإقامة الصلاة، ومكانا يجتمع فيه النبي الكريم بأصحابه. وعلى هذا النمط البسيط أقيمت مساجد كثيرة في مختلف المدن والبلدان، التي أشع عليها نور الإسلام بعد ذلك. ولكي يتعرف المسلمون على الجهة الصحيحة للقبلة أثناء الصلاة وضع المحراب؛ ليكون وجهتهم الصحيحة للصلاة نحو الكعبة المشرفة. هذا المحراب الذي أمسى رمزا للصلاة، وموقعا جوهريا يذكر الناس بعبادة الله عزوجل. وتبارى الناس في تفخيمه، والتركيز على شكله، حتى صار تحفة معمارية تنطق بالجمال والإبداع، وتعبر في الوقت نفسه عن الروح المبدعة، التي تحلى بها المعماري والفنان والمسلم.

تعريف المحراب

والمحراب عنصر معماري، أكثر ما يوجد في المساجد والجوامع والزوايا والمدارس. وهو التجويف أو الحنية الموجودة في حائط القبلة. وقد قيل أيضا إنه «الغرفة، الموضع العالي، صدر البيت، أرفع مكان في المسجد، أشرف الأماكن، أشرف المجالس، وقد أطلق عليه أيضا القبلة» (1). والمحراب لا يتسع إلا لشخص واحد هو الإمام، يؤدي فيه الصلاة خلال وقت الذروة، وفي الأعياد والمواسم، وازدياد عدد المصلين، فيكون وجود الإمام داخل تجويف المحراب متيحا فرصة لتكوين صف كامل من المصلين، مما يوفر في المكان. أما في الأحوال العادية، فإن الإمام غالبا يقف بعيدا عنه، وذلك يعطي انطباعا بأن عمل المحراب لا يزيد على كونه علامة بارزة لتحديد اتجاه القبلة، وبذلك يعتبر هذا العمل الرئيسي للمحراب.

المحراب في القرآن الكريم

ورد ذكر المحراب في أكثر من موضع من آيات القرآن الكريم، قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (مريم:11). ونلحظ هنا أن التوجه بالتسبيح صباحا ومساء كان لوجوده في المحراب، أي إن المحراب هو موضع لائق لذكر الله والتسبيح والتبتل إليه سبحانه، { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا  كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا  قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا  قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ  إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ  بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران:37). والمحراب هنا «غرفة عبادتها في بيت المقدس» (2). {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران:39)، أي إن المحراب للصلاة ومناجاة الله وذكره سبحانه. كما وردت كلمة المحراب في القرآن الكريم بمعنى المكان العالي المكرم في المنزل، قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } (ص:21)، «أي اعتلوا سور مصلاه ونزلوا إليه» (3). كما جاءت لفظة محراب في القرآن الكريم بصيغة الجمع «محاريب»، في قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} (سبأ:13)، وفسرت محاريب في هذه الآية الكريمة بالقصور والمساجد يتعبد فيها.

ومحاريب المساجد في الإسلام تنقسم إلى نوعين: محاريب مسطحة، ومحاريب مجوفة.

المحاريب المسطحة

هي مجرد رمز يعين اتجاه بيت الله الحرام على هيئة رسم مسطح أو غائر أو بارز. وتذكر المصادر التاريخية أنه «لم يكن المحراب في مسجد النبي  " صلى الله عليه وسلم"  مجوفا، بل مسطحا تسطح الجدار نفسه، ولكنه كان محددا أو معلما، وظل في مكانه بعد توسعة المسجد في حياة النبي  " صلى الله عليه وسلم" ، في السنة السابعة بعد الهجرة، وكان جراء ذلك أنه صار أقرب إلى الجدار الشرقي منه إلى الجدار الغربي، ذلك لأن توسعة المسجد نحو الغرب كانت أطول من توسعته نحو الشرق. وفي خلافة عمر بن الخطاب  "رضي الله عنه" ، نقل جدار القبلة نحو الجنوب بمقدار خمسة أمتار تقريبا، ومن ثم نقل مكان المحراب نحو الجدار الجديد، ولكن على نفس المحور، وحدث الشيء نفسه في خلافة عثمان بن عفان  "رضي الله عنه" ، حيث نقل جدار القبلة إلى الجنوب خمسة أمتار أخرى، وبذلك صار في موضعه الحالي» (4). وقد ظل المحراب في العهد الإسلامي الأول مسطحا. أما عن المادة التي صنعت منها المحاريب المسطحة، فكانت من الجص على حائط القبلة. ومن أمثلة المحاريب المسطحة الباقية إلى اليوم محراب قبة الصخرة المسطح في المغارة تحت الأرض، كما يوجد في مسجد ابن طولون في القاهرة خمسة من المحاريب الجصية المسطحة، التي يعود بعضها إلى العصر الفاطمي، والبعض الآخر صنع في العصر المملوكي.

المحاريب المجوفة

تتخذ المحاريب المجوفة هيئة بنائية، وكيانا معماريا فريدا، ولا يعرف على وجه التحديد مكان أول محراب مجوف في المساجد الإسلامية، غير أن بعض المصادر ترجع إنشاء أول محراب مجوف إلى توسعة المسجد النبوي في عهد الوليد بن عبدالملك، زمن ولاية عمر بن عبدالعزيز على المدينة، «الذي جعل للمسجد محرابا مجوفا، وموقعه في الروضة الشريفة، أمام مصلى النبي  " صلى الله عليه وسلم" ، فكان هذا أول محراب مجوف في المسجد» (5). وقد انقسمت المحاريب المجوفة إلى نوعين: المحاريب المجوفة ذات المسقط المتعامد الأضلاع، والتي ترجع إلى القرنين الأول والثاني الهجريين، خصوصا في شرق العالم الإسلامي، خلال العصر العباسي كما في «محراب قصر الإخيصر، ومحراب أقدم مسجد باق على أرض فارس، ويعرف باسم طريق خانه» (6). أما خلال النصف الأخير من القرن الثاني الهجري، فقد كانت الغلبة للمحراب المجوف ذي المسقط نصف الدائري، والذي نجده بكثرة في العمائر الأموية، كما في المسجد الأموي بدمشق، وجامع قصر الحلايات، ومسجد خان الزبيب، ومسجد أبو الوليد، والمحراب الصغير في قصر المشتى وقصر الطوبة، وجميعها في منطقة الشام. وسرعان ما انتشر هذا النوع من المحاريب المجوفة في بناء المساجد في شرق العالم الإسلامي وغربه على حد سواء. وقد قيل الكثير من الآراء بشأن الحكمة من المحراب المجوف، منها أنه يفيد في تعيين اتجاه القبلة، وفي تحديد مكان الإمام عند الصلاة، وفي توسيع المسجد بما يقرب من صف من المصلين في الصلاة الجامعة، ويساعد على تجميع صوت الإمام وتكبيره وإيصاله إلى المصلين، الذين يوليهم ظهره أثناء الصلاة، لاسيما قبل اختراع مكبرات الصوت.

مواد المحاريب

لقد نال المحراب المجوف عناية كبيرة من مؤسسي المساجد من حيث الاهتمام بعمارته وزخرفته، ونوعية المواد التي يغشى بها تجويفه. ونتوقف هنا مع أهم المواد التي صنع منها تجويف المحاريب.

الجص

يعد الجص من أقدم المواد التي صنع منها تجويف المحاريب في المساجد الإسلامية. ويعد المحراب القديم في جامع أحمد ابن طولون، في مدينة القاهرة، أقدم مثل في مصر على استخدام الجص في تشييد المحاريب، حيث استخدم الجص في تشييد محراب المسجد، وذلك من ناحية جداره المجوف وعقود واجهته، وما حولها من زخارف جصية كلها تعود إلى فترة ابن طولون «ما عدا الكسوة (الطاقية) التي من الخشب، والتي زخرفت بالألوان، فهي من أعمال السلطان لاجين المملوكي، وكذلك الشريط المزخرف بالفسيفساء والكسوة من الحشوات والأشرطة الرخامية، التي تغطي سطح تجويف المحراب» (7).

الرخام

كان الرخام من المواد المفضلة في تغشية محاريب المساجد. ومن أشهر المحاريب الرخامية القديمة المحراب الذي عثر عليه في جامع الخاصكي ببغداد، ويعتقد أنه كان في الأصل قد عمل لجامع المنصور، الذي بناه لقصره في وسط بغداد، وهو عبارة عن قطعة من الرخام، وهناك أيضا محراب جامع عقبة ابن نافع في القيروان، والذي زود على أيدي حكام إفريقيا من الأغالبة، وهو من حشوات رخامية من المرمر المزخرف، ومحراب مسجد الناصر قلاوون في مدينة القاهرة، والذي يعد من أكبر المحاريب في مصر وأفخمها، «يكتنفه ثلاثة أعمدة رخامية ذات تيجان كأسية، وفي تجويف المحراب فسيفساء من الرخام، والصدف متعددة الألوان» (8). وأيضا في محراب مسجد السلطان حسن «المكسو بالرخام الملون المحلى بنقوش ذهبية، والذي يكتنفه أربعة أعمدة من الرخام، وعلى يمين المحراب المنبر، وهو من الرخام الأبيض، وبابه من الخشب المصفح بالنحاس المنقوش» (9). كما زاوج المسلمون في المغرب والأندلس في عمل المحاريب وزخرفتها بين استخدام الجص والرخام في عبقرية فنية فريدة، تفصح عن نفسها في محراب جامع قرطبة الكبير، ومحراب مدرسة يوسف في غرناطة.

الخزف

وإلى جانب الجص والرخام، برع الفنان المسلم في استخدام مختلف أنواع البلاطات الخزفية، لتغشية المحاريب، وكان أول ظهور لبلاطات الخزف ذات البريق المعدني، في صنع المحاريب، في سامراء بالعراق، ثم أرسلت ليزدان بها محراب مسجد عقبة بن نافع في القيروان، وهي باقية إلى يومنا هذا (10). وقد تنافس الغرب الإسلامي مع المشرق الإسلامي، من حيث الشغف باستخدام الخزف لزخرفة المحاريب، ففي بلاد المغرب والأندلس، خصوصا في عصر دولة الموحدين، استخدم الزليج بزخارفه الهندسية الدقيقة والمتعددة الألوان على نطاق واسع، حتى بات من مميزات الفن الإسلامي الرئيسية هناك، كما أثبت الخزافون في المشرق الإسلامي جدارتهم بريادة هذا الفن، من خلال استخدام بلاطات الخزف ذي البريق المعدني، والخزف ذي اللون الأزرق الفيروزي، لتغشية وزخرفة حنايا المحاريب، وذلك بتجميل محاريب البلاطات الخزفية بالكتابات النسخية، التي تحوي آيات من القرآن الكريم، إلى جانب الزخارف النباتية المعروفة بالتوريق أو الأرابسك، واستخدمت المقرنصات الخزفية أيضا لتزيين طواقي المحاريب، مثلما نرى في محراب جامع يزد، ومحراب جامع قلبان في بخارى. وقد لحق الأتراك العثمانيون بركب المحاريب الخزفية، فنراهم يستخدمون بلاطات الخزف المنتجة في أزتيك، ليس فقط لتغشية المحاريب، بل لكسوة جدران المساجد من الداخل بها.

المحاريب المتنقلة

عرف المسلمون المحاريب المتنقلة، أو غير الثابتة، وهي محاريب يمكن نقلها من مكان إلى آخر عند الضرورة، وكانت هذه المحاريب تصنع من الخشب، وكان يعنى بزخرفتها، حيث كان يستخدم بعضها لإقامة الصلاة في القصور الخاصة بالخلفاء والأمراء. وقد عرفت هذه المحاريب المتنقلة أيضا في منطقة الموصل بالعراق، وما وقع شمالها من أرض الأكراد، وذلك بغرض استخدامها في المصلى الصيفي للمساجد التي تقع في المناطق القارية، التي يتسم مناخها بالبرودة الشديدة شتاء، والحرارة الشديدة صيفا، الأمر الذي دفع بالمسلمين في هذه المناطق إلى تقسيم المسجد إلى قسمين، أحدهما مغلق للصلاة في أوقات الشتاء، والآخر مفتوح لاستخدامه في فصل الصيف. ولما كان المحراب الرئيسي يشيد في الجزء المغلق، فقد كان الاحتياج شديدا لاستخدام المحاريب المتنقلة في المصليات الصيفية. ومن أمثلة هذه المحاريب المتنقلة الباقية إلى اليوم «محراب السيدة رقية، بمتحف الفن الإسلامي بالقاهرة، والذي يعود تاريخه إلى عام 533م» (11).

وفي النهاية نقول: رغم اختلاف العلماء بين مؤيد ومعارض للمحراب المجوف، فإنه يمثل عنصرا فنيا ومعماريا مهما، يؤكد على الطراز الفريد للعمارة الإسلامية، ويمثل في الوقت نفسه أحد الملامح المعبرة عن جماليات الفن الإسلامي.

الهوامش

1 - مختار الصحاح، مادة «م ح ب»، ص 128.

2 - كلمات القرآن.. تفسير وبيان، للشيخ حسنين محمد مخلوف، ص 37.

3 - المصدر السابق، ص 262.

4 - موسوعة المفاهيم الإسلامية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، وزارة الأوقاف المصرية، الفصل الخاص بالمحاريب (نسخة إلكترونية).

5 - وكالة الرئاسة العامة لشؤون المسجد النبوي، محاريب المساجد.

6 - الفن الإسلامي، أبوصالح الألفي، ص 168.

7 - المصدر السابق، ص 169.

8 - المصدر السابق، ص 198.

9 - جامع السلطان حسن وما حوله، د. حسن عبدالوهاب، ص 18.

10 - الفن الإسلامي، مصدر سابق، ص 175.

 11 - موسوعة العمارة والآثار والفنون الإسلامية، د. حسن الباشا، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، (نسخة إلكترونية).

جامعة ولاية سونورا بالمكسيك تمنح عبد الوهاب زايد الدكتوراه الفخرية

سونورا – الوعي الشبابي: منحت جامعة ولاية سونورا بالولايات المتحدة المكسيكية شهادة الدكتوراه ...

حسن بن محمد يكتب: العيد.. وتعزيز القيم الأسرية

حسن بن محمد - كاتب وباحث - تونس: يعتبر العيد مناسبة للفرح والاحتفال لدى كل العائلات المسلمة، وهو ...

مواجهة الإلحاد بالعلم والعقل والدين.. كتاب جديد للدكتور خالد راتب

القاهرة – الوعي الشبابي: أصدر الدكتور خالد محمد راتب، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ...

اتصل بنا

  • صندوق البريد: 23667 الصفاة 13097 - الكويت
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
  • 22467132 - 22470156

عندك سؤال