الثلاثاء، 16 أبريل 2024
رئيس التحرير
فهد محمد الخزّي

مرزوق العمري يكتب: من أعلام الدعوة الإسلامية.. الشيخ عمر العرباوي

الجزائر – مرزوق العمري: قيض الله عز وجل لخدمة دينه والدعوة إليه رجالا تميزوا بما آتاهم الله ...


 

 

المتواجدون على الموقع

المتواجدون الأن

24 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تدوينات

53041bc56

أحمد مصطفى علي:

تناقص المياه أزمة عالمية شديدة التأزم في الوطن العربي؛ إذ تقع جميع الدول العربية تحت خط الفقر المائي (باستثناء السودان والعراق)، حيث يعرف خط الفقر المائي بالألف متر مكعب وما دونها. ويوضح مقدار هذا الخطر الذي يعيشه أكثر من 75 في المئة من سكان الوطن العربي،  إذ تقول في ذلك تقديرات «فالكينمارك» (معهد ستوكهولم الدولي للمياه) وخبراء آخرون: إنه يحتاج كل فرد في المتوسط إلى 1000 متر مكعب من المياه على الأقل سنويا (أي مليون لتر ماء)، وهو ما يعادل خمسي حجم حمام السباحة الأولمبي لأغراض الشرب والنظافة وزراعة متطلبات غذائه، هذا في الوقت الذي يبلغ فيه إجمالي المياه العذبة على وجه الكرة الأرضية 3 في المئة من حجم المياه.

وعلى الرغم من حدة الأزمة العربية، فإن تأثيرها يتضاعف مع أزمة الغذاء العالمي المقبلة، والعوز المائي الذي يجوب العالم، والذي سبق أن حذرت منه الأمم المتحدة وفق دراسات تشير إلى أن شخصين من كل ثلاثة أشخاص في كوكب الأرض سيعانيان من نقص المياه بحلول عام 2025م، خصوصا في مناطق الشرق الأوسط.

وتلك المشكلة العالمية للمياه خلقت نوعا جديدا من التجارة يتعلق بتصدير المياه والتي وصل حجمها إلى 800 مليار متر من المياه في السنة، أي ما يعادل عشرة أمثال نهر بغزارة نهر النيل، وهو ما دعا المعاهد الأميركية للمياه إلى توقع تجاوز تجارة المياه مقدار 1.7 تريليون متر مكعب سنويا في الوقت القريب مع تنامي تحرر السلع الغذائية من السيطرة، والاحتياج لأقل المياه تكلفة مقارنة بتكاليف تحلية مياه البحار والمحيطات.

ولكن يبقى أمامنا كثير من الخطوات السياسية والاقتصادية والاجتماعية البالغة الأهمية لحماية المياه، وتأتي خطورة إمكانية تغافل هذه الخطوات مع الزيادة السكانية العربية، وتنامي احتياجات التصنيع والزراعة، فضلا عن الرفاهية وما تستهلكه من كميات مياه بالغة الضخامة، مثل ملاعب الجولف أو القرى السياحية. لذا، فالمسؤولية ليست للحكومات فحسب وإنما أيضا مسؤولية مشتركة مع الشعوب، إذ إن على الجماهير أن تتحمل العواقب، وتساهم بوعيها وسلوكها في الحد من الإسراف في استعمال المياه، خصوصا في الزراعة ثم الصناعة والمنازل وغير ذلك، فكل قطرة ماء هي حياة بالفعل.

ويمكننا هنا أن نتناول أهم المحاور التي يمكن الشروع فيها تجاه الأزمة المائية العربية.

أولا: تطوير السياسة المائية العربية

صار لزاما أن ننظر هنا إلى ضرورة وضع استراتيجية محكمة تراعي مختلف عناصر القضية المائية، ومن هذا: ضبط المياه – إدارة المياه – مصادر المياه، كالبحث عن مصادر جديدة واستغلالها مثل المياه الجوفية وتحلية ماء البحر وغير ذلك - كذلك ترشيد استهلاك المياه – التوعية بخطورة إهدار المياه – تشجيع الشركات ورجال الأعمال على الاستثمار في مجال المياه.

كما يبقى لهذه الاستراتيجية أن تراعي خلالها الحكومات العربية الجهود العلمية، وفي ذلك سرعة الأخذ بالتوصيات البحثية مأخذ الجد والتنفيذ من دون إبطاء، وفي مثل ذلك نتائج المنتدى العربي للبيئة

(افد) 2010م، الذي طالب بضرورة أن تحول الحكومات العربية من دورها كمزود للمياه إلى أدوار الإدارة والتخطيط، فضلا عن تنمية مصادر المياه وحمايتها من الاستخدام الجائر والتلوث، وتشجيع إعادة استخدامها، ولا يتسنى ذلك من دون معرفة دقيقة بما تمتلكه من مياه وأراض رطبة ومستنقعات وبحيرات وأحواض كشرط لنجاح إدارتها، وهذا يستلزم مراعاة دراسات تقييم التغييرات التي تحدث في أنظمة المياه العذبة نتيجة للنشاط الإنساني أو تغير المناخ، فضلا عن الحاجة إلى أبحاث حول تطوير أنواع المحاصيل لتحتمل الجفاف والملوحة، ومعالجة تحديات الأمن الغذائي في التكيف مع تغير المناخ (1).

ثانيا: المياه الزراعية

وفي المجال الزراعي يمكننا إجمال الحديث في عدة نقاط:

1 - استخدام طرق الري الحديثة، مثل الري بالتنقيط، أو استخدام تقنية الليزر في تسوية الأراضي الزراعية، والأخيرة لها مردود اقتصادي واضح على المحاصيل، خصوصا القصب والأرز. ومن النتائج الملموسة لتسوية الأرض بالليزر ما حدث في تجربة عملية في مصر على محصول القصب، وتحقيق زيادة نصيب الفرد المزارع بمقدار 5.41 في المئة من الدخل القومي، وخفض استهلاك المياه من 12.3 ألف متر مكعب للفدان إلى 8.4 آلاف متر مكعب للفدان، أي توفير أكثر من 815 مليون متر مكعب من المياه لمساحة قصب السكر فقط (2).

2 - تغيير التركيب المحصولي، بمعنى أن تقوم الدول العربية بزراعة المحاصيل الأكثر ربحا والأكثر طلبا لدى السكان، واستيراد المحاصيل الأكثر وفرا وزهيدة السعر.

3 - تعديل التركيب المحصولي، وذلك عبر إمكانية توفير كميات ضخمة من المياه من خلال استبدال محصول البنجر بالقصب (3)، مع خفض المساحات المنزرعة بالمحاصيل الشرهة للمياه، كالأرز، أو محاولة منعها أو إدخال أصناف جديدة من الأرز، فهناك سلالات أقل استهلاكا للمياه، ويتم تطويرها باستمرار في الدول المتقدمة، كاليابان، بتقنية تطوير سلالات الأرز.

4 - إعادة استعمال مياه الصرف الزراعي فيما يلائمها، أو بعد مرورها على عملية إزالة للمبيدات العالقة.

5 - التوسع في استعمال المياه الجوفية لغرض الزراعة.

6 - تعظيم الاستفادة من مياه الأمطار حال وجودها في بعض الدول العربية.

7 - ضرورة الدراسة الجيدة للأراضي التي يتم استصلاحها، مع الأخذ في الاعتبار فشل الكثير من أراضي الاستصلاح جراء زحف الرمال، أو نفاد بعض مخزون الآبار الجوفية أو ملوحتها، وهو الأمر الذي يطالب فيه البعض باستغلال الصحاري في الصناعة والمدن السكنية مقابل حماية وترك الأراضي الملائمة للزراعة في العديد من بلدان الوطن العربي، ومدى إمكانية مضاعفة التطوير والاستفادة منه.

ثالثا: المياه الصناعية والمنزلية

يزداد الصرف الصحي والصناعي الملوث بالمواد الكيميائية والمبيدات الزراعية، ويتجاوز 43 في المئة من مياه الصرف بأنواعه من دون معالجة، وهو ما يرفع المخاطر الصحية للأطفال، فضلا عن ذلك لا يعاد استخدام أكثر من 20 في المئة منها، وذلك وفق إحصاءات المنتدى العربي للبيئة والتنمية لعام 2010م (4).

هذا، ووفق تقارير البنك الدولي، فإن الأمراض التي تأتي من سوء الصرف الصحي تمثل 4 في المئة من العبء العالمي للأمراض، كذلك الاقتراب من المناطق الصناعية والطرق السريعة، واستخدام مصادر طاقة سيئة وملوثة للبيئة يؤدي إلى مستويات مختلفة من أمراض الجهاز التنفسي وسرطان الرئة وأمراض القلب، وبالتالي فهي تكلف الدول مليارات الدولارات في شكل إنتاجية مهدرة، إضافة إلى خسائر التعويضات والعلاج. وعلى الرغم من أن التكلفة البشرية والمالية للتلوث باهظة للغاية، فإنها تقع في معظم الأحيان على الفئات الفقيرة، مما يجعل مكافحة التلوث، فضلا عن كونه مسألة اقتصادية وبيئية، مسألة عدالة اجتماعية أيضا (5).

فخطر تلوث الماء جراء النشاط الصناعي مشكلة مزمنة، ولا يقتصر على المخلفات الصناعية، بل والتخلف في إنشاء مشاريع مجاريها المائية، وعدم مجاراتها لتوسع استهلاك المياه، واستسهال بعض منعدمي الضمير من أصحاب المصانع للتصرف غير الآمن في المياه الملوثة، أو عدم اتباع قوانين تنقيتها، أو إهمال متابعة أجهزة التنقية. لذلك، ينبغي في هذا الصدد، وللمخاطر السالفة التي كشفتها الدراسات، ما يلي:

1 - سن تشريعات ووضع عقوبات رادعة لإهدار المياه:

وفي ذلك سن تشريعات تجرم إهدار المياه.. أمثلة في ذلك: أرصفة الشوارع أو سرقة خطوط المياه، ووضع عقوبات رادعة لذلك، ووضع تشريعات تلزم أجهزة الداخلية والبيئة والمحليات القيام بدورها، وتحديد مختص لها لكل منطقة، يسأل عن وضع الإهدار المائي بها، أو التلوث الحادث فيها، ويشمل ذلك «إهدار المياه، سرقة المياه، إلقاء الحيوانات النافقة في الترع والأنهار، إلقاء مخلفات المباني والقمامة على جانبي النهر والترع والمصارف، صرف مبيدات وأسمدة في الترع والمصارف، إلقاء صرف صناعي في المجاري المائية أو الجوفية، عدم معالجة مياه الصرف الصناعي».

2 - تشديد العقوبات المتخذة على تلويث مياه الأنهار والبحيرات بالماء الصناعي أو المنزلي، وكذلك اتخاذ عقوبات رادعة لمن يهمل صيانة وإصلاح الأجهزة القائمة بذلك.

3 - مراقبة دورية لاستخدام المياه في المنشآت الصناعية، وسن عقوبات خاصة لمن يتكرر لديه هدر المياه.

4 - إلزام المنشآت الصناعية بإعادة استخدام المياه متى أمكن ذلك (مثال لذلك المصانع الكبرى، والمصانع الصغرى، وورش غسل السيارات، ومحطات الوقود، والصناعات الأسمنتية والسمادية... وغيرها)، فلا تضرها إعادة استخدام المياه.

وفي ذلك الصدد، يمكن إلزام هذه الجهات بتطبيق نظم الكيمياء الخضراء، وهي كيماويات لا تضر بالإنسان، وبكفاءة تصل إلى عشرة أضعاف فعالية الكيمياء الحالية لتطهير المياه الملوثة وتنقيتها ومعالجتها. وهناك أيضا استخدام لأجهزة الليزر التي تضبط الجرعة المثالية للكيماويات، وتكشف عن مناطق التآكل في مواسير الإنتاج والمناطق ومساحتها لتوفير الوقت والجهد (6).

رابعا: تدوير المياه

من الحقائق المعروفة علميا أنه يهدر 10 في المئة من المياه الصالحة للزراعة، لأنها ملوثة بدرجة كبيرة لا يمكن معها توصيلها إلى المزارعين (7)، أما ما يهدر من باقي كميات المياه الزراعية، أي المياه التي تم الري بها واستهلكت لسوء أنظمة الري التقليدية، فهو أمر لا يمكن وصفه، فالزراعة تستهلك عادة أكثر من 70 في المئة من نصيب المياه في كل دولة. أما الهدر للمياه المنزلية المستهلكة فذلك حسب تعداد سكان كل دولة، هذا بجانب الهدر الآخر للمياه المنصرفة من الأنشطة الصناعية أو الترفيهية.

لذا، بات من الضروري مع تصاعد الأزمة المائية التوسع في تدوير المياه المستعملة وفق آليات حديثة تسمح بإعادة استخدامها في أكثر من غرض، وإعادة استخدامها في الأغراض الملائمة مثل زراعة غابات الأخشاب الماهوجني التي تتم زراعتها بمعالجة مياه الصرف الصحي المنزلي. ولتوضيح قيمتها الاقتصادية فإن سعر المتر الواحد لأخشاب الماهوجني يصل إلى أكثر من مئتي دولار أميركي، وبالتالي يحقق عائدا اقتصاديا بالغ الأهمية، وكذلك إمكانية استخدامها في تنظيف السيارات، أو أشجار الطرق، إلى غير ذلك من الأغراض الملائمة لتلك المياه المعالجة.

ويمكننا الإشارة إلى مدى الحرص على المياه في الدول الغربية، فأميركا، على سبيل المثال، تستخدم ذلك بشكل متميز، رغم أنها من الدول التي تملك وفرة مائية، بل إنها تعيد استخدام مياه الصرف المعالجة في غسل الشوارع وأشجار الطرق والغابات الخشبية،

بل إنها تبني وسائل أخرى شديدة الدقة فيما يعرف بمراحيض المزج الجاف المزودة بنظام فصل البول، وتقوم هذه التقنيات على إعادة استخدام البول في الزراعة، وتحويل المخلفات المتبقية إلى مزيج عضوي يمكن أن يخصب التربة، وتعمل هذه الوحدات بطريقة شبيهة بأكوام المزيج العضوي في الحدائق، فتقوم بتفكيك الفضلات البشرية بفعل الميكروبات الهوائية فتحولها إلى مادة غير سامة غنية بالمغذيات، ويمكن أن يستثمر المزارعون المادة العضوية الناتجة كسماد للمحاصيل، كما يمكن استخدام هذه التقنيات بصورة آمنة حتى في المناطق الحضرية المكتظة، كما يتضح ذلك من منشآت مشروع «جيبرز السكني» في ضواحي ستوكهولم وفي العديد من المشاريع الريادية (8).

وتمكنت أميركا أيضا من خلال المهندسين المدنيين المختصين في هذه التقنية من فصل الإمدادات المائية عن نظم الصرف الصحي، وعبر هذه الوسيلة تمكنت من توفير كميات كبيرة من المياه العذبة التي تم تطبيقها على نطاق واسع. إضافة إلى ذلك، فإن إعادة تدوير المخلفات تحد من استخدام السماد المستمد من الوقود الأحفوري.

خامسا: تحلية مياه البحار والمحيطات

وليست الحلول تقف عند ما سبق، فهناك إمكانية لتحلية ماء البحر بأقل تكلفة، من خلال تبني برنامج جاد لإنتاج الطاقة النووية، وهو أمر حاسم في الاستفادة من هذه المياه بشكل مضاعف (9).

كما يمكننا أيضا استخدام سبل أخرى متقدمة تزيل أيضا من الأذهان ما كان من تكلفة باهظة في تحلية المياه فيما سبق، مثل تقنيات التناضح العكسي لتحلية المياه بدلا من تقنيات البخار المكلفة، أو عبر تدوير المياه وتعدد استخدامها، فتكنولوجيا المياه يمكنها تخفيض الاستهلاك إلى أقل من النصف، مما يجعلنا قادرين على استصلاح أراض صحراوية جديدة وزيادة الرقعة المزروعة. كما يمكن كذلك زيادة الموارد المائية لأكثر من 40 في المئة عبر إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي والصناعي والصحي في الغابات الخشبية مما يوفر 8 مليارات متر مكعب (10).

وحول هذه التقنية (التناضح العكسي) تحدثت الأبحاث العلمية الأميركية عام 2008م عن التوصل لمزايا تخفيض التكلفة بشكل بالغ مع تنامي استغلال عملية التحلية في توفير الطاقة الكهربائية، حيث تذكر مجلة العلوم الأميركية في تقرير علمي: «يبدو أن أدوات إزالة ملوحة المياه تحقق بعض التوازن باستثمارها لهذا المصدر الضخم من المياه المالحة، والتخفيض الكبير الحالي في تكاليف تقنية إزالة ملوحة المياه أكثر اقتصادا للطاقة، وذلك عبر استخدام تقنية التناضح العكسي؛ يعني أنه بإمكان العديد من المدن الساحلية أن تحصل حاليا على مصادر جديدة لمياه الشرب».

ففي نظام التناضح العكسي تجري المياه المالحة في أحد حيزين مفصولين بغشاء شبه منفذ (يمرر المياه العذبة)، حينئذ تطبق زيادة كبيرة في الضغط على الحيز الذي يحوي المياه المالحة، وفي خلال فترة من الزمن يجبر الضغط جزيئات المياه على المرور عبر الغشاء إلى حيز المياه العذبة. وقد حقق المهندسون بالفعل وفرا في التكاليف بإدخال تحسينات مختلفة، تشمل أغشية محسنة تتطلب ضغطا أقل وتستهلك طاقة أقل لترشيح المياه وتعديل النظام، وهذا ما يجعل البناء أكثر سهولة. وقد تم إنشاء مصانع كبيرة لإزالة ملوحة المياه تستخدم التقنية الجديدة الأرخص تكلفة في كل من سنغافورة وخليج تامبا في فلوريدا (11).

ويعمل الباحثون حاليا على مزيد من التوفير عبر مرشحات التناضح العكسي المؤلفة من أنابيب كربونية نانوية، وهي الأكثر كفاءة للفصل، وبإمكانها أن تحقق تخفيضات إضافية في تكاليف إزالة ملوحة المياه بنسبة 30 في المئة. وتشهد هذه التقنية التي تم توضيحها بنماذج أولية قلة استخدام تجاري، على الرغم من التحسينات في مردود الطاقة. ويعد سبب محدودية تطبيق تقنية التناضح العكسي أن استهلاكها للطاقة مازال كبيرا، وعليه؛ فإن من الأهمية بمكان استخدامها مصدرا لتوليد الطاقة الكهربائية بالمياه، بما يمكننا من تحمل تكلفتها، وبالتالي إمكان تطبيق هذه التقنية على نطاق واسع.

سادسا: الاستثمار في مجال المياه

من المدهش أن يتطلب عائد الاستثمار تفادي نقص المياه في المستقبل، وذلك للنفقات المالية الضخمة مستقبلا للحصول على المياه، فخبراء شركة بوز آلين هاميلتون قالوا: «إن العالم سيحتاج إلى استثمار نحو تريليون دولار سنويا لتوفير المياه اللازمة لجميع الاستخدامات حتى عام 2030م؛ وذلك لأجل تطبيق التقنيات المتاحة حاليا لحفظ المياه وصيانة البنية التحتية واستبدالها وبناء نظم الصرف الصحي، وهو بالطبع رقم هائل بالتأكيد، بيد أنه قد لا يكون بهذه الضخامة، إذا ما نظر إليه في ظروف التقييم الحالية المعقولة، فالمبلغ المطلوب لا يشكل حاليا سوى 1.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي السنوي العالمي، أو نحو 120 دولارا نصيب الفرد الواحد، ويبدو أن مثل هذا الإنفاق يمكن تحقيقه» (12).

سابعا: إنشاء هيئة عربية عليا من المستوى الثاني في المسؤولية ملحقة بأمانة جامعة الدول

يتبنى الباحث في هذه النقطة الرؤية البحثية للدكتور عادل عبد الرازق، حيث يكون دور الهيئة ليس تنفيذ الاستراتيجيات البحثية لحماية المياه وإيجادها فقط، بل وضع خطط طويلة الأمد لتنظيم واستغلال أحواض الأنهار العربية، والإشراف الدائم لمنع تحول أي آثار جانبية إلى عقبات تحول دون استغلال هذه الأحواض. يضاف إلى ذلك مرونتها وحيويتها في استخدام عوامل الإحلال والطرد للقوى الاجتماعية والاقتصادية في تلك المناطق، مع الإدراك الكامل لحاجات دولها وحتمية التعاون بينها. وقد تشكل هذه الهيئة نوعا من القوة المعنوية لدولها الأعضاء، خصوصا فيما يعني مصر والسودان.

ويفسر الدكتور عادل عبدالرازق، مهام هذه الهيئة في ما يلي:

إيجاد وسائل لإدارة الصراع، ويتطلب ذلك طريقتين (13) هما:

< صراعي، ويقوم على أن مفهوم الأمن القومي لا يتجزأ، أي إنه مفهوم يشمل استخدام الدول العربية لقواتها العسكرية لوقف استغلال الدول الأخرى المشاركة في أحواض الأنهار العربية، وبالتالي خرق اتفاقيات المشاركة الموقعة بين دولها، وهذا البديل أقل احتمالا في التنفيذ، وغير مرغوب فيه، ويصعب تطبيقه إلا في إطار التوازنات الدولية القائمة في العالم.

< تعاوني، ويقوم على مبدأ المنفعة المتبادلة مع دول الجوار الاستراتيجي، أو بين دول الحوض الواحد من منطلق الإيمان بوجود مصالح مشتركة أو متبادلة من دون مغالاة أو تجاوز، مع معرفة حقيقية لحاجات دول الحوض من الماء واستخدام أمثل لها.

وينطوي ما سبق على عنصرين مهمين (14):

< ضرورة تطوير استراتيجية عربية مشتركة تضع المصلحة العربية العليا موضع التنفيذ. فإذا لم يكن هناك اتحاد كامل للرؤية، فعلى الأقل وجود وحدة حركية في العمل لتنفيذ الحد الأدنى من الاتفاق تمنع الآخرين من سرقة المياه، وانتهاك المواثيق والأعراف الدولية بشأن أحواض الأنهار.

ثامنا: التوصيات الثقافية

وتتمثل تلك التوصيات في النقاط التالية:

أمور تتعدى نطاق الدولة، خصوصا على مستوى دول الجوار، ومن ذلك:

< مهرجانات ثقافية مشتركة مع دول الجوار المائي للأنهار العربية.

< دورات رياضية مشتركة مع الدول ذاتها.

< تنظيم رحلات مشتركة، وتبادل زيارات تعليمية وبحثية.

< برامج إعلامية مشتركة.

< مطبوعات عربية بلغات هذه الدول، للتقارب الثقافي معها، مع نشر الاتصال الإلكتروني.

فضلا عن العمل الداخلي لمواجهة التحديات الصارمة للحفاظ على المياه، ويقتضي عدة أمور أهمها:

< إعداد مخطط محكم يشارك فيه مجموع الفاعلين والمستهلكين للماء.

< توعية المواطنين بكيفية استعمال الماء على أحسن وجه، وتشجيع مشاركتهم.

< توعية شركات توزيع المياه والمستهلكين بأهمية الماء.

< تعليم الجهات والأفراد من خلال حملات إعلامية مقترحات مهمة لتوفير المياه.

< تفعيل دور الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني في التوعية بحماية المياه، والحد من تلوثها، وابتكار أساليب حديثة وتبنيها.

< وضع دروس تعليمية في جميع المراحل التعليمية.

تاسعا: تعزيز الجهود العلمية

ومن ذلك:

< الاستفادة بالجهود البحثية الغربية الأجنبية المبذولة في مجال المياه، وتطبيق الملائم للواقع، خصوصا مع انتشار المراكز البحثية العالمية ونتائجها المنشورة التي يجب الحرص على ترجمتها أولا بأول في مراكزنا العلمية العربية، والعناية بها، ودراستها، والإضافة إليها وتطويرها.

< تعزيز جهود مراكز بحوث المياه العربية والأقسام الجامعية المعنية، ودعمها ماديا، وكذلك بشريا بباحثين متميزين، وبآليات حديثة، وضم تخصصات متنوعة علمية حديثة عبر الاستفادة من الجهود الغربية في ذلك، مثل الاتصال والمياه وكيفية تطوير حملات توعية الاستهلاك لتلائم الجمهور المعاصر وآليات ثقافته الرقمية، وكذلك الأبحاث المعنية بتطوير تحلية المياه وتقليل تكلفتها المادية، وسبل ترشيد استهلاك المياه في المجالين الزراعي والصناعي والتي يدهشنا العالم كل عام بالجديد فيها.

< الاستفادة من المخترعات والتقنيات والخبرات الدولية في مجال المياه، وتطبيق التقنيات المتاحة والملائمة بشكل فوري.

< حث كبار المزارعين والمنتجين على السفر إلى مواقع الخبرة، ومعاونة صغار المزارعين في السفر على حساب دولتهم لتطوير آلياتهم الزراعية وإنماء المحاصيل وحماية الماء للتوسع الزراعي، وكذلك الأمر لباحثي الدول العربية لتعلم أحدث مجالات العلوم الزراعية واستغلال المياه في نظم الري المتطورة.

عاشرا: تعزيز الجهود الدولية لحماية المياه

وفي هذه النقطة يمكن الحديث عن:

1- مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة في استوكهولم 1972م

تتضمن خطة العمل الدولي لحماية الحياة ومواجهة مشكلات البيئة 109 توصيات للحكومات ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، مثل منظمة جامعة الدول العربية أيضا. وتأتي أهمية المؤتمر في اعتراف الدول بمسؤوليتها عن تأمين بيئة لائقة لأجيال الحاضر والمستقبل على السواء، كخطوة مهمة نحو التنمية المستديمة، وكذلك حق الأفراد في الاطلاع والحصول على المعلومات، والمشاركة في صنع القرارات حول النشاطات التي من المحتمل أن يكون لها تأثير بالغ في البيئة، والحق في العلاج والتعويضات لمن تأثرت صحتهم أو بيئتهم أو يمكن أن تتأثر بصورة خطيرة.

2- برنامج الأمم المتحدة للبيئة

unep 1972م

كان من نتائج مؤتمر استوكهولم، إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة، لتكون مهمته الأساسية العناية بشؤون البيئة، ووظائفه في ذلك ما يلي:

- ترقية التعاون الدولي في مجال البيئة وتقديم التوصيات المناسبة لهذا الغرض.

- وضع الأنظمة الإرشادية العامة لتوجيه البرامج البيئية وتنسيقها في إطار نظام الأمم المتحدة.

- متابعة تنفيذ البرامج البيئية وجعل الوضع البيئي الدولي تحت البحث والمراجعة المستمرة.

- ترقية مساهمة الهيئات العلمية والمهنية المتصلة لاكتساب المعارف البيئية وتقويمها وتبادلها.

- جعل الأنظمة والتدابير البيئية والوطنية والدولية في الدول النامية تحت المراجعة المستمرة.

3- إدارة البيئة والإسكان والتنمية المستدامة - المجلس الوزاري العربي للمياه – جامعة الدول العربية.

4- برنامج الأمم المتحدة الإيفاد.

5- برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP (15).

6- برنامج الأمم المتحدة للبيئة الصادر جراء مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة - استوكهولم 1972م، ويتضمن نص ميثاق المؤتمر: تمويل برامج البيئة وتقديم المساعدة والتشجيع لأي جهة داخل الأمم المتحدة وخارجها للمشاركة في تنفيذ مهام برنامج حماية البيئة والمراجعة السنوية لما تم في هذا الخصوص وإقراره.

7- برنامج المنظور البيئي 2000م، والذي يتضمن ضمن بنوده، تحقيق تحسينات مطردة في مستويات المعيشة في جميع البلدان، وتوافر مأوى مناسب لسبل محيط آمن نظيف يفضي إلى الصحة الوقائية ويخفف من حدة التردي البيئي.

8- مؤتمر الأمم المتحدة الثاني للبيئة والتنمية «قمة الأرض» ريو دي جانيرو 1992م، والمتضمن إقرار ميثاق الأرض استنادا لإعلان حقوق الإنسان، والمتضمن كذلك جدول أعمال القرن الحادي والعشرين، وخلاله وافقت 174 دولة على 90 في المئة من إعلان النوايا، وكانت الـ 10 في المئة الأكثر حساسية هي مثار الاعتراض، لأنها المعنية بالتمويل، لذا يجب على دول الجنوب محاولة حث الرأي العام الدولي على تنفيذ مقترح فرنسا بمنح دول الشمال للجنوب 750 مليار فرانك كل عام، علما بأن المعونة الحالية تبلغ 55 مليارا، والمقترح يبنى على أساس رفع معونة حماية البيئة بنسبة 0.7 في المئة من إجمالي الناتج القومي الخاص بها (وكانت تعطى بالفعل من قبل نسبة 0.5 في المئة)، هذا ولم تبد الولايات المتحدة الأميركية أي حماسة لذلك (لأنها تعطى حاليا 0.21 في المئة)، وكذلك بريطانيا (التي تعطي 0.27 في المئة)، والمفترض أن المساومة إذن قائمة، خصوصا أن هذه الحقوق جراء ما جنته بعض الدول الاستعمارية من تدمير دول الجنوب واستنزاف مواردها أو تعمد نقل التلوث الصناعي إليها.

الهوامش

1- ماري يعقوب، في تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية (افد) 2010م: كارثة مائية تدق أبواب العرب قبل عام 2015م، القاهرة: مجلة رسالة النور، العدد 492، أكتوبر – نوفمبر – ديسمبر 2010م، ص41.

2- خميس البكري، علماء الزراعة ينجحون في تصنيع المعدات الزراعية ذاتية الحركة في مصر، القاهرة: جريدة الأهرام، 24 سبتمبر 2005م، ص21.

3- محمد عاطف كشك، نهر النيل – المخاطر الحالية والمستقبلية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2007م، ص48.

4- ماري يعقوب، في تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية (افد) 2010م: كارثة مائية تدق أبواب العرب قبل عام 2015م، القاهرة: مجلة رسالة النور، العدد 492، أكتوبر – نوفمبر – ديسمبر 2010م، ص41.

5- شايدا بادي، ومهدي إخلاجي، وأورانبيليج باتجارجال، وآخرون، ص93.

6- وجدي رياض، الكيمياء الخضراء.. تتصدر مؤتمرات المياه، القاهرة: جريدة الأهرام، 19 يونيو 2000م، ص27.

7- ناجي كامل، مرجع سابق.

8- مجموعة من العلماء، تقرير «مواجهة أزمة المياه العذبة في العالم»، ترجمة الدكتور أحمد فرغلي عبدالنعيم، مجلة العلوم الأميركية، 2008م.

9- د. محمود منصور، مواردنا المائية.. مخاطر وتحديات، القاهرة: دار الهلال للطبع والنشر، مايو 2011م، ص74.

10- د. مجدي أبوريان، تقنية المياه، القاهرة: جريدة الأهرام، 4 مارس 2000م، ص10.

11- مواجهة أزمة المياه، تقرير مجلة العلوم الأميركية، مرجع سابق.

12- المرجع السابق.

13- عادل عبدالرازق، بؤر التوتر والنزاع حول المياه في حوض النيل والعالم العربي والاستراتيجية المصرية للسياسة المائية في حوض النيل، دراسة تحليلية وقانونية في إطار العلاقات السياسية الدولية، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2004م، ص42.

14- المرجع السابق، ص43.

 15- ممدوح حامد عطية، إنهم يقتلون البيئة، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م، ص51 – 60.

gallery vue de lile louet et

باريس - الوعي الشبابي:

يسعى جميع السياح من شتى بقاع العالم مع اقتراب حلول فصل الصيف إلى اختيار المكان الأنسب لقضاء عطلتهم هذا العام، وتتصدر قائمة اختيارهم الفنادق الفاخرة التي توفر جميع سبل الراحة والاسترخاء لنزلائهم.

1527 skyl

محمد شعبان أيوب :

ارتبطت المدينة في الحضارة الإسلامية في نشأتها وتطورها بمعايير حضارية تأثّرت بتاريخ الإسلام وتطور تجربته؛ فقد أبدل الإسلام نمط الترابط والأخوة بنمط العصبيات والقبليات القديم دون نزعه تمامًا لصعوبة ذلك.

 وفي داخل المدن الجديدة كان توزيع الخِطط والإقطاعات في يد النبي r باعتباره الحاكم، وقد كان منهجه في المدينة المنورة تجميع كل قبيلة في خِطة أو منطقة خاصة بها، وتُركت حرية تقسيم الخطة للقبيلة وفقًا لظروفها وإمكاناتها في الإنشاء والتعمير، وعلى هذا الأساس سار إقطاع الخطط والمنازل في المدن الإسلامية الناشئة، ومن أمثلة ذلك مثل ما حدث في البصرة سنة 14هـ والكوفة سنة 17هـ والفسطاط سنة 21هـ والقيروان سنة 45هـ والعسكر بمصر سنة 133هـ وبغداد سنة 145هـ وسُرّ من رأى "سامراء" سنة 221هـ ـ وغير ذلك من المدن الإسلامية الأخرى، وبذلك أصبح نظام تقسيم المدينة إلى خطط تربط بين سكان كل خِطّة منها صلات مُعينة محورًا أساسيًا بين المحاور التي قامت عليها أسس تخطيط المدينة الإسلامية الناشئة[2].

ولقد روعي عند بناء المدينة الإسلامية عدة عوامل أخرى منها وجود الماء وطيب الهواء أو اعتدال المناخ، والجو الصحي، وضرورة تضمّن المدينة للسوق والمسجد الجامع والقصبة الرئيسية "الشارع العام"، فضلاً عن وجود سور يحيط بالمدينة به أبواب للدخول والخروج، فهذه أحد أهم محددات شكل المدينة الإسلامية سيرًا على ما قام به النبي r في المدينة المنورة، وما اقتضته الضرورة الزمنية، والتطور الحضاري فيما بعد.

وعن شروط اختيار المدن بصفة عامة يُشير ابن الأزرق (ت896هـ) إلى أن ما تجب مراعاته في أوضاع المدن أصلان مهمان: دفع المضار وجلب المنافع، ثم يذكر أن المضار نوعان: أرضية، ودفعها بإدارة سياج الأسوار على المدينة، ووضعها في مكان ممتنع، إما على هضبة متوعرة من الجبل، وإما باستدارة بحر أو نهر بها، حتى لا يُتوصّل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة، فيصعبُ منالها على العدو، ويتضاعف تحصينها. والنوع الثاني من المضار سماوي، ودفعه باختيار المواضع طيبة الهواء؛ لأن ما خبث منه بركوده أو تعفّن بمجاورته مياهاً فاسدة أو منافع متعفنة أو مروجًا خبيثة يسرع المرض فيه للحيوان الكائن فيه لا محالة[4].

وأدى اللجوء لاتباع الحل المتضام في النسيج العمراني للمدينة الإسلامية لأن تكون شوراعها ضيقة متعرّجة لتفادي أشعة الشمس، وموافقة ذلك لوسائل النقل في ذلك العصر وهي الدواب والعربات اليدوية، وفي المناطق الحارة يتجه التفضيل في توجيه الشوارع من الشمال إلى الجنوب؛ لأن ذلك يُساعد في عدم تعرّض الطرق وواجهات البيوت المطلة عليها فترة طويلة للشمس، فضلاً عن اكتسابها الرياح الشمالية التي تساعد على استمرار برودتها أطول فترة ممكنة لوجود نسبة التضليل العالية في هذه الشوارع، وقد تجلت هذه الظاهرة في أروع أمثلتها في القاهرة، وسارت على هذا التخطيط مدن الصعيد وبقية المناطق الحارة في العالم الإسلامي[6].


[2] محمد عبد الستار عثمان: المدينة الإسلامية ص49.

[4] يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص95. سلسلة عالم المعرفة، العدد 304 – الكويت، 2004م.

[6] يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص99.

4 8 2015 8 57 07 AM

الحسن ملواني:

دخل متهالكا شاحب الوجه فاتر الأطراف، سأله الطبيب، فلم يعرف كيف يرد عليه، فهو لا يحس بأي ألم في جسده. وبعد لحظة من التردد، قال مجيبا: أيها الطبيب، أصارحك بأني لا أشكو من ألم ولا وجع، الوساوس تهاجمني بين فينة وأخرى، تارة أخال نفسي شريرا مغتصبا تحققت فيه كل صفات التوحش والنذالة بامتياز، وتارة يتبين لي استعدادي الفطري للبذل في سبيل إشاعة المودة والوئام والاحترام بين الناس، أرى قدرتي على أن أكون مرشدا بحلمي وحكمتي ونبل أخلاقي.

كان الطبيب يحدق فيه مركزا عله يعثر بين أقواله على شيء يفيده في العلاج، وحيث لم يجد شيئا قاطعه قائلا: علتك يا أخي بسيطة، لا تحتاج إلى دواء، بعد أيام سيزول عنك ما تعانيه.

نهض المريض خائبا، كان حزين القسمات مضطرب الأفكار، فالطبيب لم يقنعه بما يمكن أن يزيل عنه ما يقاسي.. كان حائرا يتساءل عن الدور الحقيقي للأطباء، فقد زار هذا وذاك، منذ خمس سنوات ولم يسمع منهم سوى الجواب نفسه، فهل الدواء ممنوع عليه وحده؟ أم أن علته لم يوجد لشفائها دواء بعد؟

انحرف بعيدا عن الشارع الرئيسي قاصدا شجرة وارفة الظل، أسند ظهره إلى جذعها، كان جاف الحلق مغرورق العينين، كان يحس أنه وحيد في زنزانة مظلمة سيختنق فيها بعد لحظة، أغلق عينيه المترهلتين ينشد سنة من النوم تخفف من الضيق الذي يطبق عليه.. فتح عينيه وإذا بشيخ وقور يربت على كتفه، فاستغرب استغرابا، واختلط لديه الحلم بالواقع.. حياه فرد عليه التحية بشفتين مرتعدتين، ابتسم الشيخ في وجهه، ثم رفع عينيه نحو الأفق وكأن شيئا لاح له من بعيد. ثم قال: اسمع يا بني، إني أتوسم في وجهك الخير والسداد، وأعرف أنك تعاني، وربما زرت أكثر من طبيب بلا جدوى.. تعجب المريض، فمن أين له أن يعرف ذلك كله؟

قال الشيخ وهو يربت على ركبته: مرضك ليس من بدنك، مرضك من قلبك، فقلبك مريض بعد أن كان سليما، وأعلم كما تعلم أنك عشت سنوات بقلب سليم يقبل الحق من صاحب الحق، كنت منيبا إلى الله متوكلا عليه، كانت حركاتك وسكناتك منقادة لأمر العبودية وطلب التقرب إليه سبحانه وتعالى.

وحين هاجرت من بلدتك الجميلة بأناسها البسطاء الطيبين حللت بتلك المدن الغريبة، فتلوثت أفكارك وتغيرت رؤيتك الصافية للعالم، ويوما بعد يوم صار قلبك مريضا، والقلب المريض حين يشتد عليه المرض يصبح بابه سهل الانفتاح لاستقبال الشبه والشكوك ووساوس الشيطان، فإن خف مرضه رجع بصاحبه إلى التفكير في الحق والعتاب على التقصير.. وبتقلب القلب المريض، يعيش المرء متاعب نفسية تفوق الوصف.

كان المريض يصغي إلى الشيخ فشعر بالطمأنينة تسري في أعماقه شيئا فشيئا، كان يقول في نفسه: الآن فقط وجدت الطبيب المعالج، الآن جاء الشفاء.

تهيأ الشيخ للانصراف ثم عاد فقال للمريض: لقد نسيت أن أخبرك أنك محظوظ لأن قلبك لم يمت بعد، فالقلب الميت أسوأ حالا من المريض، القلب الميت مرتع للشهوات بكل الأنواع، لا يردع صاحبه عنها لا العبد ولا المعبود، يتصرف وفق هواه ولا يفكر في مولاه.

أشاع قول الشيخ مزيدا من السكينة والفرح في قلبه، وشعر أنه وجد بابا نحو طريق الشفاء.. وحين هم الشيخ بالمغادرة، سأله المريض: أيها الشيخ الطيب الفاضل الحكيم، لم تصف لي دواء! قال: عليك بالرجوع إلى سيرتك الأولى، حين كنت في بلدتك تؤمن بقوله تعالى: { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} (الشعراء:88-89)، كان قلبك آنذاك خاليا من كل شهوة تبعدك عن نور الله، تبحث عن الحسنات وتخاف السقوط في الزلات.

يا بني، عليك بتقوى الله وكفى.

 انصرف الشيخ.. لم يعد المريض يراه، وكان يفكر في أمر القلوب الثلاثة: سليم يطمئن صاحبه، ومريض يعذب صاحبه، وميت يميت همة وأخلاق صاحبه.

kh 1122220

تركي محمد النصر :

«إشبالي» المدينة المنبسطة، هو الاسم القديم لهذه المدينة العريقة قبل أن يعرِّبه العرب إلى «إشبيلية»، وهي مدينة كبيرة عظيمة كانت أيام المسلمين من أعظم مدن الأندلس، وتعد اليوم من أكبر وأجمل مدن إسبانيا، وهي عاصمة منطقة الأندلس.. ومحافظة إشبيلية في جنوب إسبانيا، وتقع على ضفاف نهر الوادي الكبير. 

عدد سكانها في عام 2007م حوالي 700 ألف نسمة، مما يجعلها رابع أكبر مدينة في إسبانيا في السكان، بعد مدريد وبرشلونة وفالنسيا، وينسب إليها خلق كثير من أهل العلم، تقع إلى الجنوب الغربي من قرطبة بالقرب من المحيط الأطلسي.

قال ياقوت الحموي في معجمه: «وإشبيلية .. قريبة من البحر، يطل عليها جبل الشّرف، وهو جبل كثير الشجر والزيتون وسائر الفواكه، ومما فاقت به غيرها من نواحي الأندلس زراعة القطن، فإنَّه يحمل منها إلى جميع بلاد الأندلس والمغرب، وهي على شاطئ نهر عظيم، قريب في العظم من دجْلة والنيل، متيسر فيه المراكب المثقّلة، يقال له وادي الكبير».

وقال الحميري في كتابه الروض المعطار في خبر الأقطار: «ويطل على إشبيلية جبل الشرف، وهو شريف البقعة، كريم التُّربة، دائم الخضرة، فراسخ في فراسخ طولًا وعرضًا، لا تكاد تشمس منه بقعة لالتفاف زيتونه، واشتباك غصونه.. ».

بدأت إشبيلية عصرها الجديد المشرق عندما فتحها المسلمون، وارتفعت أعلام الإسلام على الأندلس، وتقدَّمت جيوش طارق بن زياد (ت: 102هـ) تفتتح المعاقل والحصون عام 93هـ، ثم قدمت موجة أخرى من الفاتحين بقيادة موسى بن نصير عام 97هـ، فأتم فتح المدن التي لم يفتحها طارق بن زياد، وآلت إشبيلية إلى المسلمين بعد حصار دام شهورًا عدة؛ لحصانة أسوارها ومناعتها، واختارها موسى بن نصير حاضرة للأندلس لوقوعها على البحر، وارتباطها بطرق مع سائر المدن الأندلسية الأخرى، وسهولة اتصالها ببلاد المغرب، قاعدة الجيوش الإسلامية، في حالة قيام الأندلس بالثورات، ولكن إشبيلية لم تتمتع بهذا التفوق، إذ تحولت العاصمة إلى قرطبة عقب مقتل عبدالعزيز بن موسى عام 98هـ.

أصبحت البلاد مسرحًا للفتن والفوضى، بعد أن انبعث الصراع القبلي بين عدد من الولاة الأمويين، وبقي الأمر بينهم كذلك حتى دخل الأمير عبدالرحمن بن معاوية الأندلس (ت: 172هـ)، وأنقذها من الفتن التي شملتها، فقضى على مظاهر الفوضى المستحكمة بها، وكوّن دولة عربية إسلامية تعد امتدادًا للدولة الأموية.

لم يحدث كبير تغير بعد الفتح الإسلامي لإشبيلية، غير ذلك الذي حدث في الجانب الديني والاجتماعي، ووفد إلى إشبيلية عدد من العرب وسكنوها، إلا أنهم آثروا النزوح إلى العاصمة قرطبة، ولما استقر فيها جند حمص عام 124هـ، نزلت بإشبيلية قبائل عدَّة عربية مثل: بني موسى، وبني زهر، وبني حجاج، وبني الجد، وبني خلدون، وتحول كثير من النصارى إلى الإسلام؛ لحسن معاملة المسلمين لهم.

وفي عام 158هـ، اعتلى عبدالرحمن بن معاوية سرير الملك بقرطبة، فتمتعت إشبيلية في عهده- ومن خلفه من بني أمية- بازدهار شامل في حياتها، وأقام فيها أمراء بني أمية المنشآت العظيمة الخالدة، وكان عصر عبدالرحمن الأوسط العصر الذي اتصلت فيه إسبانيا الإسلامية بالمشرق العباسي لأول مرة اتصالًا مباشرًا، ذلك أن إسبانيا في عهدها الإسلامي الأول، وخاصَّة في عهد عبدالرحمن الداخل، كانت تحافظ على مُثُلِها وتقاليدها الشَّاميَّة.

استولى المعتمد بن عباد (ت: 488هـ) على مقاليد الأمور بإشبيلية عام 433هـ، وجعلها حاضرة لمملكته الصغيرة، وشهدت إشبيلية في عصر بني عباد ازدهارًا لم تشهده من قبل، ووصل بها الأمر أن أصبحت أعظم مدن إسبانيا الإسلامية، بعد أن تخلت لها قرطبة عن الزعامة، ولكن سرعان ما بدأت عظمة إشبيلية بالتلاشي، خاصة عندما توالى عليها عدد من خلفاء الموحدين الضعفاء، حتى وصل الأمر إلى دخول جيوش قشتالة إليها بعد حصار دام 17 شهرًا، كان ذلك في سنة 645هـ.

الحياة العلمية في إشبيلية

تُعدُّ إشبيلية مركزًا من مراكز الثقافة الأندلسية العريقة، حيث يوجد بها جامعة قديمة ترجع إلى قرنين من الزمان، تحتوي على كليات للآداب والحقوق والعلوم وكلية مستقلة للطب، وتدرس العربية قليلًا بكلية الآداب، وينسب إليها خلق كثير من أهل العلم.. منهم في العلوم الشرعية أبوعبدالله بن عمر بن الخطاب الإشبيلي (ت: 276هـ) وهو قاضيها، وفيها من اشتهر بالطب وتوارثوه جيلًا بعد جيل، وهم بنوزهر، وأشهرهم أبوالعلاء بن زهر بن أبي مروان (ت: 525هـ)، كان من علماء الطب بالمغرب وتُوفي بإشبيلية، وأبوبكر بن زهر الحفيد, محمد بن أبي مروان بن أبي العلاء بن زهر، ولد سنة 507هـ، وكان أوحد زمنه في صناعة الطب، وكذلك كان من أعلم أهل زمانه باللغة العربية، كما اشتهر منها من علماء الزراعة أبوالعباس أحمد بن محمد بن الخليل المعروف بابن الرومية (ت:637هـ) عالم النبات الأموي المشهور، وكان عالمًا محدثًا تلقى عنه الكثير من التلاميذ العلوم الشرعية، وأبوزكريا يحيى بن محمد بن العوام الإشبيلي (ت:575هـ)، وهو أول من عرف وحدد الترب على أساس نوعها، والنباتات التي تختص بتربة دون غيرها.

إنشاء المسجد

بلغت إشبيلية ذروة مجدها وعظمتها في عهد الموحدين، وخاصة في عهد أبي يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن (ت: 580هـ)، وابنه أبي يوسف يعقوب المنصور (ت: 585)، وأصبحت بحق حاضرة الأندلس وازدهرت فيها الحضارة والعمارة.

ومن معالم إشبيلية الحضارية الحي العربي القديم، حيث الشوارع الضيقة التي لا تسمح إلا بمرور السيارات الصغيرة، والهدوء العجيب الذي تنعم به الشوارع نهارًا، وجداول الماء التي في أفنية البيوت، والجدران التي تحمل نقوشًا عربية منقولة بأشكالها المعروفة في القصور والمساجد، وأكثرها يكرر جملة «لا غالب إلا الله».

وأُنشِئ في المدينة منذ تأسيسها في العصر الإسلامي مسجدان جامعان..

الأول: مسجد ابن عديس، الذي بناه الأمير عبدالرحمن الأوسط عام 213هـ، ومازالت بقاياه ظاهرة حتى اليوم، وإن كانت تقوم عليها كنيسة سان سلفادور، وكانت قد أصيبت مئذنة المسجد في عام 757هـ بأضرار جسيمة؛ نتيجة لزلزال عنيف هدم الجزء العلوي منها، وأقيم مكانها طابق النواقيس الحالي، ثم هدم المسجد بأكمله عام 1081هـ باستثناء المئذنة والبهو، وبنيت مكانه الكنيسة الجديدة.

لما ضاق مسجد ابن عديس- بعد مضي ثلاثة قرون على إنشائه- على المصلين من أهل إشبيلية، وكانوا يصلون في رحابه وأقبيته، وفي حوانيت الأسواق المتصلة به، فيبعد عنهم التكبير بالفريضة.. أمر الحاكم الموحدي أبويعقوب يوسف بن عبدالمؤمن ببناء مسجد جامع بالقصبة.

الثاني: المسجد الجامع بالقصبة الذي أسسه أبويعقوب يوسف، وهو منارتنا في هذا البحث.

عمارة الجامع

بدأ العمل المبارك في بناء هذا الصرح في شهر رمضان المبارك عام 567هـ، وعُهد إلى شيخ العرفاء أحمد بن باسة الإشبيلي- وهو من أبرز خبراء البناء والتصميم والتخطيط وتنفيذ المشاريع الموحدية الكبرى والبناءين من أهل إشبيلية ومراكش وفاس- بذلك، وقد حفر المهندسون أساسه حتى وصل الحفر إلى الماء، ثم وضع أساسه من الآجر والجير والجص والأحجار، وأسست دعائمه تحت مستوى سطح الأرض.

استمرت عملية البناء من غير توقف ولمدة أربعة أعوام، حتى وصل البناء إلى التسقيف، وشابه- إلى حد كبير- مسجد قرطبة الجامع من حيث الاتساع والفخامة، واهتم العرفاء ببناء قبة المحراب، وأودعوا فيها كل عبقريتهم.

المنبر

صُنع للمسجد منبر من أغرب ما قدر عليه من غرابة الصنعة، اتخذ من أكرم الخشب مفصلًا منقوشًا مرقشًا محكمًا بأنواع الصنعة والحكمة في ذلك، من غريب العمل، وعجيب الشكل والمثل، مرصَّعًا بالصندل، مجزَّعًا بالعاج والأبنوس، يتلألأ كالجمر بالشعل، وبصفائح من الذهب والفضة، وأشكال في عمله من الذهب الإبريز يتألق نورًا، ويحسبها الناظر لها في الليل البهيم بدورًا.

ثم أقيمت له مقصورة أحاطت بالمحراب والمنبر لصلاة الخليفة، وبني ساباك يربط بين المسجد والقصر؛ حتى يتسنى للخليفة أن يمشي فيه أثناء خروجه من قصره إلى الجامع للصلاة، وكان المسجد يشتمل على سبعة عشر رواقًا عمودية على جدار القبلة، البلاط الأوسط منها أكثر البلاطات اتساعًا، وعقود الجامع منكسرة تستند إلى دعائم من الآجر، وكان يدعم جدران الجامع الخارجية دعامات ضخمة لتدعيم الجدران، وافتتح الجامع في احتفال حضره الخليفة الموحدي أبويعقوب يوسف بن عبدالمؤمن، وولي عهده الناصر، وجميع بنيه وأشياخ الموحدين، والقاضي وأعيان المدينة، وخُطبت أول جمعة من على منبره بتاريخ 24 ذي الحجة سنة 577هـ.

المنارة الشامخة

بعد الافتتاح المبارك، أمر الخليفة الموحدي أبويعقوب يوسف بن عبدالمؤمن ببناء مئذنة شامخة للمسجد، إلا أنه تُوفي في هذه السنة فتوقف العمل، ولما تولى ابنه أبويوسف يعقوب المنصور الذي خلف أباه؛ أَمَرَ والي إشبيلية بالإشراف على إتمام مشروع أبيه، وإكمال بناء مئذنة تجاوز في ارتفاعها مئذنة قرطبة، ولم توضع اللمسات الأخيرة النهائية بتعليق التفافيح الذهبية بأعلى الصومعة إلا بعد فراغ هذا الخليفة من غزوة «الأراك» أو «الأرك» في شهر شعبان من سنة 591هـ، وارتفعت المئذنة في رشاقة مشرفة على سهول إشبيلية، لا صومعة تعدلُها في جميع مساجد الأندلس، تظهر للعين على مرحلة من إشبيلية مع كوكب الجوزاء، تثير إعجاب المسلمين والنَّصارى فيما بعد على السواء.

وصف المسجد

تخطيط الجامع هو عبارة عن مساحة مستطيلة يتبع طراز المسجد التقليدي، وهو الصحن الأوسط والأربع ظلات المحيطة به، ويُدخل إليه عبر خمسة عشر بابًا، سبعة منها في الضلعين الشرقي والغربي، والباقي في الضلع الشمالي، والباب الرئيسي يعرف بـ «باب الزعفران»، ومازال يحتفظ بمصراعيه، وصحن الجامع عرضي عرف باسم «بهو البرتقال»؛ لكثرة أشجار البرتقال المزروعة بأرضيته، ويحيط بالصحن بائكات الظلات الأربعة، وظلة القبلة تشغل ثلثي مساحة الجامع، وتتكون من سبع عشرة بلاطة تسير عقودها عمودية على جدار القبلة، أما الظلتان الجانبيتان فتتكون كل منهما من بلاطة واحدة.

النهاية الحزينة

لما سقطت إشبيلية في يد «فرناندو الثالث» ملك قشتالة سنة 646هـ، قام بتحويل المسجد الشامخ إلى كنيسة أسماها كنيسة «سانتا ماريا»، وحفظت بها رفات فرناندو الثالث ملك قشتالة، وشُيّد بالجامع قبر للرحالة «كريستوفر كولومبس» مكان مربع المحراب، وظل المسجد قائمًا على تلك الحال دون أن تصيب عمارته أضرار جسيمة، وتلاحقت عليه بعد ذلك المصائب على إثر الزلازل التي ضربت البلاد، فاضطر المجلس الكنسي بإشبيلية إلى اتخاذ قرار بهدمه وبناء كاتدرائية إشبيلية مكانه، وبالفعل هدمت الجهة القبلية للجامع، ووضع حجر الأساس في البناء الجديد عام 804هـ، وظل بهو الجامع المعروف بـ «بهو البرتقال» محتفظًا بسلامته إلى حد كبير، حتى تهدمت مجنبته الغربية عام 1026هـ. ولم يتبق من جامع الموحدين إلا دعامات البائكتين الشمالية والشرقية المطلة على الصحن، وعدة عقود تطل على بهوه من جهتي الشمال والشرق، ومن بين هذه العقود عقد الباب المعروف بـباب الغفران، ومصراعا الباب المصفح بالبرونز وكتاباته الكوفية.

أما المئذنة فقد تحولت بعد سقوط إشبيلية إلى برج للأجراس ملحق بالكنيسة، ثم أزالت إحدى الصواعق الجزء العلوي من المئذنة عام 899هـ، كما سقط جزء آخر منها في زلزال عام 909هـ، وأقام الإسبان مكان هذا الطابق العلوي طابقًا جديدًا من البناء عام 974هـ، نُصب في أعلاه تمثال من البرونز يدور مع الرياح، ومن هنا أطلق عليه اسم «خيرالدة» أو «دوارة الهواء»، وتحول هذا الاسم إلى «خيرالدا»، وأصبح يطلق منذ أوائل القرن الثامن عشر على البرج بأكمله، ولا يخفى على الزَّائر أنَّ «الخيرالدا» اليوم هي إحدى معالم إشبيلية الخالدة، لدرجة أنَّها جرت في وجدان وتراث الإشبيليين، حتَّى كادت تضاهي سمعة نهرها (الوادي الكبير) الذي يحمل اللفظ العربي نفسه.

خاتمة

سقطت قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، وكبرى قواعد الأندلس، ومثوى العلوم والآداب.. بعد أن ملكها المسلمون أكثر من خمسمائة عام، وكان سقوطها عام 633هـ ضربة قاسية، وكارثة جسيمة في العالم الإسلامي كله، وعُدَّ سقوطها نذيرًا مهددًا بخضوع معظم البلاد إما عاجلًا وإما آجلًا، وتبعها بالسقوط بلنسية عام 636هـ، ودانية عام 641هـ، وجيان عام 643هـ، وشاطبة ومرسية عام 664هـ، وإشبيلية عام 646هـ.

استولى النصارى على آخر المدن الإسلامية (غرناطة)، وخفق علم النصرانية فوق مآذن جوامعها، وطُويت صفحة الأمجاد والبطولات بأصابع الخيانة والذل، وانتشرت أخبار مذابح الصليبيين في الممالك الإسلامية، وقد وصف الشاعر أبوالفداء الرندي (ت: 684هـ) أفعالهم بقصيدته المعروفة:

لكلِّ شيء إذا ما تم نقصانُ

فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دُولٌ

من سره زمن ساءته أزمان

فاسأل بلنسيةً ما شأنُ مرسيةٍ

وأين شاطبةٌ أم أين جيَّان

وأين قرطبة دار العلوم فكم

من عالم قد سما فيها له شان

حيث المساجد قد صارت كنائسَ

ما فيهم إلا نواقيسٌ وصلبانُ

حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ

حتى المنابرُ ترثي وهي عيدان

وتقف مئذنة مسجد إشبيلية الجامع، ويبدو الشموخ عليها واضحًا رغم وضع الأجراس فوقها، وكأنها تقول: «هأنا مازلت مسلمة، وسيرجع إليَّ المسلمون في يوم ما، ليملأوا سمائي نورًا وتكبيرًا».

غربت شمس الإسلام عن بلاد الأندلس، بعد أن أنارت هذه البلاد لقرون، أقاموا خلالها أروع حضارة عرفها الغرب، وكان من أثر حضارة الإسلام أن فتحوا أدمغة الغرب إلى العلم والحضارة، وأحيوا فيه إنسانيته، بعد أن عاش تحت الأوهام والخرافات قرونًا.

وبقيت حضارة المسلمين شاهدة وناطقة على المجد التليد الذي شيده المسلمون، فهاهو جامع إشبيلية وجامع قرطبة وقصر الحمراء والزهراء، معالم حضارية تحكي قصة المسلمين في الأندلس المفقود، قال أحدهم متألمًا:

وقفتُ بالزهراءِ مستعبرًا

معتبرًا أندب أشتاتًا

فقلت: يا زهراء ألا فارجعي

قالت: هيهات وهل يرجع من ماتَ؟!

فلم أزل أبكي وأبكي بها

هيهات يُغني الدمع هيهاتا

المراجع:

1- المسجد الجامع بقصبة إشبيلية، د.عماد عجوة.

2- معجم البلدان لياقوت الحموي.

3- العمارة الإسلامية في المغرب الإسلامي، د.محمد محمد الكحلاوي.

4- العمارة الإسلامية في المغرب والأندلس، د.أحمد التوني رستم.

5- لماذا غربت شمس الإسلام عن الأندلس، د. أبو النور أحمد الزعبي.

6- الأعلام، لخير الدين الزركلي.

7- ابن العوام الإشبيلي، د.محمد هشام النعسان.

9- المساجد والقصور في الأندلس، د.عبدالعزيز سالم.

جامعة ولاية سونورا بالمكسيك تمنح عبد الوهاب زايد الدكتوراه الفخرية

سونورا – الوعي الشبابي: منحت جامعة ولاية سونورا بالولايات المتحدة المكسيكية شهادة الدكتوراه ...

حسن بن محمد يكتب: العيد.. وتعزيز القيم الأسرية

حسن بن محمد - كاتب وباحث - تونس: يعتبر العيد مناسبة للفرح والاحتفال لدى كل العائلات المسلمة، وهو ...

مواجهة الإلحاد بالعلم والعقل والدين.. كتاب جديد للدكتور خالد راتب

القاهرة – الوعي الشبابي: أصدر الدكتور خالد محمد راتب، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ...

اتصل بنا

  • صندوق البريد: 23667 الصفاة 13097 - الكويت
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
  • 22467132 - 22470156

عندك سؤال