hekayat

القاهرة - محمد عبدالعزيز يونس:

يرصد كتاب "حكايات قبل النوم للمربي المهموم" مجموعة من القصص الحياتية ذات الفائدة في صقل تجارب الآخرين، من واقع معاناة أصحاب هذه القصص وما مروا به من أحداث غنية بالمواقف والعِبر.

والكتاب الصادر عن #دار_البشير_للثقافة_والعلوم بالقاهرة في 160 صفحة من القطع المتوسط ترصد مؤلفته د. إيناس فوزي مكاوي 21 تجربة إنسانية متنوعة على اتساع تنوع الحياة ومواقفها، وطبائع أبنائها، لكن يجمع بينها وقفات أبطالها مع أنفسهم قبل فوات الأوان، ومعالجة أخطائهم، ونقل خبراتهم إلى الآخرين ليستفيدوا منها.

لكل أم حزينة من جلستها مع أبنائها في المنزل

ونتوقف في السطور التالية مع قصة طبيبة رمزت لنفسها باسم "نانسي"، تقول:

لم أتخيل وأنا طالبة متفوقة يأتي ترتيبي دومًا الأول على فصلي؛ أن أدخل كلية غير الطب، وبالفعل دخلت هذه الكلية عقب حصولي على الثانوية العامة بمجموع كبير جدًا.

مضت سنوات الكلية في تفوق، لكني بعد التخرج تزوجت من زميلي "محسن"!

رزقني الله بالحمل في "جنى" عقب الزواج مباشرة، شعرت بالضيق! أهذا هو ما تزوجت من أجله؟ الحمل وأن أصبح "دادة" لطفل قادم؟!

كان زوجي "محسن" يحاول تهدئتي، وتحملني كثيرًا خلال فترة حملي، وبعد أن أنجبت "جنى" كنت أشعر بالملل والقرف والغضب.. أثور على زوجي، وأطلب منه أن يحمل عني "جنى"، كنت ثائرة لأنه لم يترك عمله في الطب، ولا دراسته للماجستير.. أنا فقط من سأتأخر!!

كان يتحملني بصبر، ويقول لي إن الأمومة هي دوري الأساسي.. لكنني كنت أصرخ في وجهه: لست "دادة" أي مربية!

رغبتُ في العودة إلى عملي بعد أن أتمت "جنى" عامها الأول، لكن زوجي رفض، ثم اضطر للقبول مكرهًا إزاء إصراري.

كانت "جنى" تذهب إلى حضانة اشتراكها يفوق راتبي 3 مرات، ثم أعود بعد العمل لأصطحبها إلى المنزل.

لاحظ "محسن" أن صحة ابنتنا "جنى" تتدهور، نبهني لذلك كثيرًا، لكني كنت مُصرة على الاستمرار في عملي.

بعد فترة قررت بعد حصولي على الماجستير أن أفتح عيادة، ولم تكن "جنى" قد أتمت عامها الرابع.

ثار محسن: أي عيادة وابنتك تحتاجك؟! يكفي عمل المستشفى!

لكني أصررت وبشدة.. غضب زوجي وترك المنزل، وتوسط بعض المعارف لإنهاء الخلاف دون جدوى.

لم أتراجع..

أذهب إلى المستشفى صباحًا و"جنى" في الحضانة ثم أعود لأصطحبها معي إلى العيادة.. لكن العيادة ليست مكانًا مناسبًا لابنتي.. ترتكب حماقات وتؤذي نفسها، ولذلك استعنت بمربية ترعاها أثناء غيابي.

زوجي محسن غاضب جدًا.. يقول: أجلي الأمر حتى تكبر ابنتك.

رفضتُ بشدة وتم الطلاق، لكن لم أهتز!

مستقبلي، حقي.. أنا عصبية جدًا مع "جنى" بسبب ظروف عملي، تساندني المربية "شريفة" في رعايتها أثناء وجودي في العيادة.. ذات يوم أقشعر بدني وأنا عائدة بـ"جنى" يومًا من الحضانة وهي تقول: "طنط شريفة أجمل من زوجها"!! واكتشفت أنها تحضر رجلا إلى شقتي أثناء غيابي فطردتها.. واستعنت بأخرى جافة الطبع، لا تداعب ابنتي، لكنها منظمة.. فوجئت بـ"جنى" تطلب مني أن أزيد من راتبها حتى تعاملها بحنان وتحتضنها!!

ارتبكتُ، لأن "جنى" تشعر أن الاحتضان مهمة المربية وليس مهمتي!

بلغني أن طليقي تزوج من طبيبة أسمها "راندا"، لكنها لا تعمل إلا في مستشفى حكومي، ليس لديها عيادة أو طموح!

اسمي كطبيبة أطفال يتصاعد يومًا بعد يوم، وعيادتي باتت مزدحمة، وقد أفادني زواج محسن بشدة، حيث أصبحت "جنى" تقضي بعض الأيام معه ومع زوجته.. ولاحظت أن "جنى" تزداد ارتباطًا به وبزوجته، ولا تتصل بي ولا تسأل عني، وإن أتيت لأصطحبها لا تريد الذهاب معي، بينما تتهلل جدًا عندما تذهب عندهما.

لم أهتم، لقد ازداد دخلي، وأصبحت من أشهر طبيبات الأطفال في المنطقة، فوجئت يومًا باستدعاء من معلمة الدين، قالت لي: عند شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحق الناس بحسن صحابتي؟ -يعني: صحبتي، قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك"، قالت "جنى" في اندهاش: وأين زوجة بابا؟، هي أحسن من ماما؟!!

عاتبتُ المعلمة على أنها استدعتني لهذا السبب!

مضت الحياة كما أريد واسمي ودخلي يكبران، وقد علمت أن زوجة محسن حامل، ثم رزقها الله بـ"حمزة" والذي أصبحت "جنى" تحبه جدًا، وقد أرسلت معها هدية له ولأمه، شكرتني "راندا" عليها، لكن في ليلة من الليالي وأنا في العيادة دق جرس الهاتف المحمول الخاص بي، إنها "جنى"، تجاهلتها لأني كنت مشغولة بعملي.. بعدها فوجئت بالممرضة تدخل في ارتباك قائلة: "جنى" تريدك يا دكتورة.. وكانت المفاجأة الرهيبة، لقد مات والد ابنتي، طليقي "محسن"!

انهرت، وبكيت كثيرًا، لقد توفي محسن في حادث مأساوي أثناء ذهابه إلى عيادته.

بكيت حزنًا عليه من كل قلبي، إنه الرجل الوحيد الذي ارتبطتُ به، ووالد ابنتي.

لكن المشكلة التي واجهتني بعد ذلك، وبعد أيام الحزن أنه ما عاد من المناسب أن تذهب ابنتي "جنى" إلى زوجة أبيها الراحل بأي حجة!

عمومًا "جنى" الآن في الصف الرابع الابتدائي وتستطيع المكوث وحدها وأنا في العيادة.

ثارت "جنى": أريد ماما "راندا"، وأخي "حمزة" لا تحرميني منهما!!

قلت لها: ماما "راندا" زوجة أبيك.. وأبوك مات.. أنا أمك!

قالت في ثورة لا تناسب سنها: ماما "راندا" هي أمي!

قلت في غضب: أنا أمك.. أنا من أدفع لك النادي و..

وقبل أن أكمل صعقتني بقولها: ليتك أنت من مت!!

تهاويت على المقعد في صدمة وهي تواصل: أريد ماما "راندا"، أنت لا تهتمين بي، أريد "حمزة" أخي!

ضربتها، وأصررت على عدم ذهابها رغم اتصالات "راندا" للسؤال عنها، قلت لها" لا نريد أن نتعبك، يكفيك ما أنت فيه.

قالت في حزن: بالعكس، "جنى" هدية من ربنا.

"جنى" هدية؟؟!

لم أفكر أبدًا في "جنى" غير أنها عبء، عبء ثقيل، لكني لم أوافق على طلب "راندا".

بعدها تدهور حال "جنى" إلى التبول اللاإرادي والبكاء الدائم، وليس على لسانها سوى: أريد ماما "راندا" وأخي "حمزة".

لم يعد يجدي معها الضرب أو الحبس، وفي النهاية اضطررت للذهاب بها إلى "راندا"، اللقاء بينهما أثار دماء قلبي، "جنى" ارتمت في أحضان "راندا"، والأخيرة تحضنها كأنها قطعة من قلبها رُدت إليها، و"حمزة" يقفز فرحًا.. لم يهتم أحد بي وأنا أنظر إليهم فانسحبتُ في صمت كأنني غريبة بينهم!

دموعي أغرقت وجهي وأنا أقود سيارتي الفارهة على غير هدى، وكلمات "محسن" رحمه الله ترن في أذني: "ابنتك تحتاجك"!

أغلقت عيادتي يومان انتظرت خلالهما أن تسأل "جنى" عني، لكنها لم تفعل، كنت أبكي وأتذكر وجه زوجي الراحل وكلماته لي.. اكتشفت الآن فقط ضياع أسرتي.

اتصلت على "جنى" فردت علي في عُجالة" مع السلامة الآن لأني خارجة مع ماما.

لم تقل مع "ماما راندا" كما كانت تقول في السابق، أصبحت "راندا" هي "ماما"، فماذا عني؟!

بكيت، لكن من يقبل التائبين؟!

لقد أخطأت حقًا حين نظرت إلى العمل على أنه حياتي الوحيدة، وأهملت ابنتي.

قمتُ أصلي وأبكي.

أصبحت أكثر من الاستغفار، كان علي الاعتراف بأنني أخطأت بانسحابي من حياة ابنتي.

قررت أن أدفع ثمن العودة.. أصبحت أذهب لرؤيتها وأنا أحمل الهدايا للجميع عسى أن يقبلونني.

لاحظت أن "راندا" فعلا رفيقة جدًا في التعامل، تحتضن "جنى" و"حمزة" في أمومة صادقة.. قليلة العقاب، تتحدث في حب، تنصح في هدوء، تلعب معهما.

أصبحتُ و"راندا" صديقتين، أشعر حقًا أنها أحبت "محسن" لدرجة أنها أحبت ابنتي "جنى" كابنتها تمامًا.

أحيانًا نخرج معًا بالأولاد، أو نبيت معًا.. أشعر أنها لا تفكر إطلاقًا في الزواج بعد "محسن"، أما أنا فتقدم لي كثيرون، وبعد استخارة الله وافقت على "أحمد".. وهو طبيب أطفال مثلي أرمل ولديه بنت.

أخذت رأي "راندا" في كل التفاصيل.

قالت لي: عاملي ابنته على أنها ابنتك تماماً.

أشعر أنها تنصحني بما فعلته هي مع ابنتي.

كبرت "جنى"، وفي يوم زفافها كنت أقف أنا وزوجي أحمد وابنته وابنتي منه "نور" من ناحية، وتقف "راندا و"حمزة" وقد أصبح شابًا يافعًا من الناحية الأخرى.

دمعت عيناي وأنا أسمع "راندا" تهمس: "اللهم تقبل "جنى" مني واغفر لمحسن".

وها أنا أنقل درس تجربتي إليكم.

تحقيق الذات عندما يأتي على حساب الأبناء وعلاقتنا بهم وبمن نحب يكون تدميرًا حقيقيًا للذات، لأن الأبناء عملنا الصالح الذي نرجو من الله قبوله، رعايتنا لهم أهم مهماتنا في الحياة.

تفرغنا لهم حق لهم لاسيما وهم صغار.

المجتمع يحتاج إلى طبيبات مثلي، ولكن ما الضرر في أن أتأخر قليلا كي أؤسس ابنتي؟!

أيضًا عندما يضعني الله كزوجة أب، لماذا لا أتصرف كأم؟ لماذا لا أزيد أعمالي الصالحة في الحياة برعاية أبناء زوجي؟

"راندا" كانت بالنسبة لي هدمًا للصورة التقليدية السيئة عن زوجة الأب، "راندا" اختارت أن تكون أمًا.. أمًا في حضنها الحنان.

حول قصة نانسي

1- لا تنسحبي من حياة أبنائك حتى لا ينسحبوا من حياتك.

2- دورك كأم ليس له بديل، أما دورك كطبيبة أو كفرد عامل في المجتمع من الممكن أن يكون له بديل.

3- كوني شخصًا معطاءً في حياة الآخرين، حتى وإن لم يكونوا أبناءك.